مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٤٨٣
القوى الحسية والخيالية ضعيفة فإذا ضعفت قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية في جوهر العقل، وحصلت المعارف وكملت العلوم من غير واسطة سعي وطلب في التفكر والتأمل، وهذا هو المسمى بالعلوم اللدنية، إذا عرفت هذا فنقول : جواهر النفس الناطقة مختلفة بالماهية فقد تكون النفس نفسا مشرقة نورانية إلهية علوية قليلة التعلق بالجواذب البدنية والنوازع الجسمانية فلا جرم كانت أبدا شديدة الاستعداد لقبول الجلايا القدسية والأنوار الإلهية، فلا جرم فاضت عليها من عالم الغيب تلك الأنوار على سبيل الكمال والتمام، وهذا هو المراد بالعلم اللدني وهو المراد من قوله : آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً وأما النفس التي ما بلغت في صفاء الجوهر وإشراق العنصر فهي النفس الناقصة البليدة التي لا يمكنها تحصيل المعارف والعلوم إلا بمتوسط بشري يحتال في تعليمه وتعلمه والقسم الأول بالنسبة إلى القسم الثاني كالشمس بالنسبة إلى الأضواء الجزئية وكالبحر بالنسبة إلى الجداول الجزئية وكالروح الأعظم بالنسبة إلى الأرواح الجزئية. فهذا تنبيه قليل على هذا المأخذ، ووراءه أسرار لا يمكن ذكرها في هذا الكتاب. ثم قال تعالى : قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو ويعقوب رشدا بفتح الراء والشين وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما بضم الراء والشين والباقون بضم الراء وتسكين الشين قال القفال وهي لغات في معنى واحد يقال رشد ورشد مثل نكر ونكر «١» كما يقال سقم وسقم وشغل وشغل وبخل وبخل وعدم وعدم وقوله رُشْداً أي علما ذا رشد قال القفال قوله : رُشْداً يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الرشد راجعا إلى الخضر أي مما علمك اللّه وأرشدك به. والثاني : أن يرجع ذلك إلى موسى ويكون المعنى على أن تعلمني وترشدني مما علمت.
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى عليه السلام راعى أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عند ما أراد أن يتعلم من الخضر. فأحدها : أنه جعل نفسه تبعا له لأنه قال : هَلْ أَتَّبِعُكَ. وثانيها : أن استأذن في إثبات هذا التبعية فإنه قال هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعا لك وهذا مبالغة عظيمة في التواضع.
وثالثها : أنه قال عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم. ورابعها : أنه قال :
مِمَّا عُلِّمْتَ وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه اللّه، وهذا أيضا مشعر بالتواضع كأنه يقول له لا أطلب منك أن تجعلني مساويا في العلم لك، بل أطلب منك أن تعطيني جزا من أجزاء علمك، كما يطلب الفقير من الغنى أن يدفع إليه جزا من أجزاء ماله. وخامسها : أن قوله : مِمَّا عُلِّمْتَ اعتراف بأن اللّه علمه ذلك العلم. وسادسها : أن قوله : رُشْداً طلب منه للإرشاد والهداية والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال. وسابعها : أن قوله : تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله اللّه به وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيها بإنعام اللّه تعالى عليك في هذا التعليم ولهذا المعنى قيل أنا عبد من تعلمت منه حرفا. وثامنها : أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلا لذلك الغير، فإنا إذا قلنا : لا إله إلا اللّه فاليهود الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة، لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم فإنما أتينا بها لأجل أنه