مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٥٠٩
موجبا لتطرقه إلى المحمول فلهذا السبب خص العظم بالوهن من بين سائر الأعضاء وأما أثر الضعف في الظاهر فذلك استيلاء الشيب على الرأس فثبت أن هذا الكلام يدل على استيلاء الضعف على الباطن والظاهر وذلك مما يزيد الدعاء توكيدا لما فيه من الارتكان على حول اللّه وقوته والتبري عن الأسباب الظاهرة. المقام الثاني : أنه ما كان مردود الدعاء ألبتة ووجه التوسل به من وجهين : أحدهما : ما روي أن محتاجا سأل واحدا من الأكابر وقال :
أنا الذي أحسنت إلى وقت كذا، فقال : مرحبا بمن توسل بنا إلينا ثم قضى حاجته. وذلك أنه إذا قبله أولا فلو أنه رده ثانيا لكان الرد محبطا للأنعام الأول والمنعم لا يسعى في إحباط أنعامه. والثاني : وهو أن مخالفة العادة شاقة على النفس فإذا تعود الإنسان إجابة الدعاء فلو صار مردودا بعد ذلك لكان في غاية المشقة ولأن الجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشق فقال زكرياء عليه السلام إنك ما رددتني في أول الأمر مع أني ما تعودت لطفك وكنت قوي البدن قوي القلب فلو رددتني الآن بعد ما عودتني القبول مع نهاية ضعفي لكان ذلك بالغا إلى الغاية القصوى في ألم القلب، واعلم أن العرب تقول سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها وشقي بها إذا خاب ولم ينلها ومعنى بدعائك أي بدعائي إياك فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة وإلى المفعول أخرى. المقام الثالث : بيان كون المطلوب منتفعا به في الدين وهو قوله : وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وفيه أبحاث : الأول : قال ابن عباس والحسن : إني خفت الموالي أي الورثة من بعدي وعن مجاهد العصبة وعن أبي صالح الكلالة وعن الأصم بنو العم وهم الذين يلونه في النسب وعن أبي مسلم المولي يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو هاهنا من يقوم بميراثه مقام الولد، والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين فقد كانت العادة جارية أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب فإنه كان متعينا في الحياة.
الثاني : اختلفوا في خوفه من الموالي فقال بعضهم : خافهم على إفساد الدين، وقال بعضهم بل خاف أن ينتهي أمره إليهم بعد موته في مال وغيره مع أنه عرف من حالهم قصورهم في / العلم والقدرة عن القيام بذلك المنصب، وفيه قول ثالث وهو أنه يحتمل أن يكون اللّه تعالى قد أعلمه أنه لم يبق من أنبياء بني إسرائيل نبي له أب إلا واحد فخاف أن يكون ذلك من بني عمه إذ لم يكن له ولد فسأل اللّه تعالى أن يهب له ولدا يكون هو ذلك النبي، وذلك يقتضي أن يكون خائفا من أمر يهتم بمثله الأنبياء وإن لم يدل على تفصيل ذلك. ولا يمتنع أن زكرياء كان إليه مع النبوة السياسة من جهة الملك وما يتصل بالإمامة فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما. أما قوله : وَإِنِّي خِفْتُ فهو وإن خرج على لفظ الماضي لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضا، كذلك يقول الرجل قد خفت أن يكون كذا وخشيت أن يكون كذا أي أنا خائف لا يريد أنه قد زال الخوف عنه وهكذا قوله : وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً أي أنها عاقر في الحال وذلك لأن العاقر لا تحول ولودا في العادة ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلام بتقادم العهد في ذلك وغرض زكرياء من هذا الكلام بيان استبعاد حصول الولد فكان إيراده بلفظ الماضي أقوى وإلى هذا يرجع الأمر في قوله : وإني خفت الموالي من ورائي لأنه إنما قصد به الإخبار وعن تقادم الخوف ثم استغنى بدلالة الحال وما يوجب مسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال وأيضا فقد يوضع الماضي مكان المستقبل وبالعكس قال اللّه تعالى : وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة : ١١٦] واللّه أعلم وأما قوله مِنْ وَرائِي ففيه قولان : الأول :
قال أبو عبيدة أي قدامي وبين يدي وقال آخرون أي بعد موتي وكلاهما محتمل فإن قيل كيف خافهم من بعده وكيف علم أنهم يبقون بعده فضلا من أن يخاف شرهم؟ قلنا : إن ذلك قد يعرف بالأمارات والظن وذلك كاف


الصفحة التالية
Icon