مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٥٣٧
واحتجوا عليه بأن هذا من الوقائع العجيبة التي تتوافر الدواعي على نقلها فلو وجدت لنقلت بالتواتر ولو كان ذلك لعرفه النصارى لا سيما وهم من أشد الناس بحثا عن أحواله وأشد الناس غلوا فيه حتى زعموا كونه إلها ولا شك أن الكلام في الطفولية من المناقب العظيمة والفضائل التامة فلما لم تعرفه النصارى مع شدة الحب وكمال البحث عن أحواله علمنا أنه لم يوجد ولأن اليهود أظهروا عداوته حال ما أظهر ادعاء النبوة فلو أنه عليه السلام تكلم في زمان الطفولية وادعى الرسالة لكانت عداوتهم معه أشد ولكان قصدهم قتله أعظم فحيث لم يحصل شيء من ذلك علمنا أنه ما تكلم، أما المسلمون فقد احتجوا من جهة العقل على أنه تكلم فإنه لولا كلامه الذي دلهم على براءة أمه من الزنا لما تركوا إقامة الحد على الزنا عليها ففي تركهم لذلك دلالة على أنه عليه السلام تكلم في المهد وأجابوا عن الشبهة الأولى بأنه ربما كان الحاضرون عند كلامه قليلين فلذلك لم يشتهر وعن الثاني لعل اليهود ما حضروا هناك وما سمعوا كلامه فلذلك لم يشتغلوا بقصد قتله.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٣٤ إلى ٣٥]
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥)
[في قوله تعالى ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ عاصم وابن عامر : قَوْلَ الْحَقِّ بالنصب وعن ابن مسعود : قال الحق وقال اللّه وعن الحسن : قول الحق بضم القاف وكذلك في الأنعام قَوْلُهُ الْحَقُّ والقول والقال القول في معنى واحد كالرهب والرهب والرهب، أما ارتفاعه فعلى أنه خبر بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف، وأما انتصابه فعلى المدح إن فسر بكلمة اللّه أو على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة كقولك هو عند اللّه الحق لا الباطل واللّه أعلم.
المسألة الثانية : لا شبهة أن المراد بقوله : ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ الإشارة إلى ما تقدم وهو قوله : إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ [مريم : ٣٠] أي ذلك الموصوف بهذه الصفات هو عيسى ابن مريم وفي قوله : عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ إشارة إلى أنه ولد هذه المرأة وابنها لا أنه ابن اللّه. فأما قوله الْحَقِّ ففيه وجوه : أحدها : وهو أن نفس عيسى عليه السلام هو قول الحق وذلك لأن الحق هو اسم اللّه فلا فرق بين أن نقول عيسى كلمة اللّه وبين أن نقول عيسى قول الحق. وثانيها : أن يكون المراد :«ذلك عيسى ابن مريم القول الحق» إلا أنك أضفت الموصوف إلى الصفة فهو كقوله : إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ [الواقعة : ٩٥] وفائدة قولك : القول الحق تأكيد ما ذكرت أولا من كون عيسى عليه السلام ابنا لمريم. وثالثها : أن يكون قول الحق خبرا لمبتدأ محذوف كأنه قيل ذلك عيسى ابن مريم ووصفنا له هو قول الحق فكأنه تعالى وصفه أولا ثم ذكر أن هذا الموصوف هو عيسى ابن مريم ثم ذكر أن هذا الوصف أجمع هو قول الحق على معنى أنه ثابت لا يجوز أن يبطل كما بطل ما يقع منهم من المرية ويكون في معنى إن هذا لهو الحق اليقين. فأما امتراؤهم في عيسى عليه السلام فالمذاهب التي حكيناها من قول اليهود والنصارى وقد تقدم ذكر ذلك في سورة آل عمران، روي أن عيسى عليه السلام لما رفع حضر أربعة من أكابرهم وعلمائهم فقيل للأول ما تقول في عيسى؟ فقال : هو إله واللّه إله وأمه إله، فتابعه على ذلك ناس وهم الإسرائيلية، وقيل للرابع ما تقول؟ فقال : هو عبد اللّه ورسوله وهو المؤمن المسلم، وقال أما تعلمون أن عيسى كان يطعم وينام وأن اللّه تعالى لا يجوز عليه ذلك؟ فخصمهم. أما قوله : ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ


الصفحة التالية
Icon