مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٥٤٨
وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا ولسان الصدق الثناء الحسن وعبر باللسان عما يوجد باللسان، كما عبر باليد عما يعطي باليد وهو العطية، واستجاب اللّه دعوته في قوله : وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ [الشعراء : ٨٤] فصيره قدوة حتى ادعاه أهل الأديان كلهم وقال عز وجل : مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج : ٧٨] ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل : ١٢٣] قال بعضهم : إن الخليل اعتزل عن الخلق على ما قال : وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم : ٤٨] فلا جرم بارك اللّه في أولاده فقال : وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا. وثانيها : أنه تبرأ من أبيه في اللّه تعالى على ما قال : فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة : ١١٤] لا جرم أن اللّه سماه أبا للمسلمين فقال : مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج : ٧٨].
وثالثها : تل ولده للجبين ليذبحه على ما قال : فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات : ١٠٣] لا جرم فداه اللّه تعالى على ما قال : وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات : ١٠٧]. ورابعها : أسلم نفسه فقال : أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة : ١٣١] فجعل اللّه تعالى النار عليه بردا وسلاما فقال : قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء : ٦٩]. وخامسها : أشفق على هذه الأمة فقال : رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [البقرة : ١٢٩] لا جرم أشركه اللّه تعالى في الصلوات الخمس، كما صليت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. وسادسها : في حق سارة في قوله : وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى [النجم : ٣٧] لا جرم جعل موطئ قدميه مباركا. وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة : ١٢٥]. وسابعها : عادى كل الخلق في اللّه فقال : فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء : ٧٧] لا جرم اتخذه اللّه خليلا على ما قال : وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا النساء : ١٢٥] ليعلم صحة قولنا أنه ما خسر على اللّه أحد. (القصة الرابعة قصة موسى عليه السلام)
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٥١ إلى ٥٣]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)
اعلم أنه تعالى وصف موسى عليه السلام بأمور : أحدها : أنه كان مخلصا فإذا قرئ بفتح اللام فهو من الإصطفاء والاجتباء كأن اللّه تعالى اصطفاه واستخلصه وإذا قرئ بالكسر فمعناه أخلص للّه في التوحيد في العبادة والإخلاص هو القصد في العبادة إلى أن يعبد المعبود بها وحده، ومتى ورد القرآن بقراءتين فكل واحدة منهما ثابت مقطوع به، فجعل اللّه تعالى من صفة موسى عليه السلام كلا الأمرين. وثانيها : كونه رسولا نبيا ولا شك أنهما وصفان مختلفان لكن المعتزلة زعموا كونهما متلازمين فكل رسول نبي وكل نبي رسول ومن الناس من أنكر ذلك وقد بينا الكلام فيه في سورة الحج في قوله تعالى : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ [الحج : ٥٢]. وثالثها : قوله تعالى : وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ من اليمين أي من ناحية اليمين والأيمن صفة الطور أو الجانب. ورابعها : قوله : وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا ولما ذكر كونه رسولا قال : وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا وفي قوله : قَرَّبْناهُ قولان : أحدهما : المراد قرب المكان عن أبي العالية قربه حتى سمع صرير القلم حيث كتبت التوراة في الألواح. والثاني : قرب المنزلة أي رفعنا قدره وشرفناه بالمناجاة، قال القاضي : وهذا أقرب لأن استعمال القرب في اللّه قد صار بالتعارف لا يراد به إلا المنزلة وعلى هذا الوجه يقال في العبادة تقرب،


الصفحة التالية
Icon