مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٥٥٢
يكون بأن لا تفعل في وقتها وإن كان الأظهر هو الأول وأما اتباع الشهوات فقال ابن عباس رضي اللّه عنهما هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب واحتج بعضهم بقوله : إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ على أن تارك الصلاة كافر، واحتج أصحابنا بها في أن الإيمان غير العمل لأنه تعالى قال : وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فعطف العمل على الإيمان والمعطوف غير المعطوف عليه، أجاب الكعبي عنه : بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما، وهذا الجواب ضعيف لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي وقوع المغايرة بينهما لأن التوبة عزم على الترك والإيمان إقرار باللّه تعالى وهما متغايران، فكذا في هذه الصورة. ثم بين تعالى أن من هذه صفته يَلْقَوْنَ غَيًّا وذكروا في الغي وجوها : أحدها : أن كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد، قال الشاعر :
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وثانيها : قال الزجاج : يَلْقَوْنَ غَيًّا أي يلقون جزاء الغي، كقوله تعالى : يَلْقَ أَثاماً [الفرقان : ٦٨] أي مجازاة الآثام. وثالثها : غيا عن طريق الجنة. ورابعها : الغي واد في جهنم يستعيذ منه أوديتها / والوجهان الأولان أقرب فإن كان في جهنم موضع يسمى بذلك جاز ولا يخرج من أن يكون المراد ما قدمنا لأنه المعقول في اللغة، ثم بين سبحانه أن هذا الوعيد فيمن لم يتب، وأما من تاب وآمن وعمل صالحا فلهم الجنة لا يلحقهم ظلم، وهاهنا سؤالان : الأول : الاستثناء دل على أنه لا بد من التوبة والإيمان والعمل الصالح وليس الأمر كذلك، لأن من تاب عن كفره ولم يدخل وقت الصلاة، أو كانت المرأة حائضا فإنه لا يجب عليها الصلاة والزكاة أيضا غير واجبة، وكذا الصوم فههنا لو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح، والجواب أن هذه الصورة نادرة، والمراد منه الغالب.
السؤال الثاني : قوله : وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً هذا إنما يصح لو كان الثواب مستحقا على العمل، لأنه لو كان الكل بالتفضل لاستحال حصول الظلم لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد. الجواب : أنه لما أشبهه أجرى على حكمه.
[سورة مريم (١٩) : الآيات ٦١ إلى ٦٣]
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
اعلم أنه تعالى لما ذكر في التائب أنه يدخل الجنة وصف الجنة بأمور : أحدها : قوله : جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ والعدن الإقامة وصفها بالدوام على خلاف حال الجنان في الدنيا التي لا تدوم ولذلك فإن حالها لا يتغير في مناظرها فليست كجنان الدنيا التي حالها يختلف في خضرة الورق وظهور النور والثمر وبين تعالى أنها : وعد الرحمن لعباده وأما قوله : بِالْغَيْبِ ففيه وجهان : أحدهما : أنه تعالى وعد [هم إيا] ها وهي غائبة عنهم غير حاضرة أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها. والثاني : أن المراد وعد الرحمن للذين يكونون عبادا بالغيب أي الذين يعبدونه في السر بخلاف المنافقين فإنهم يعبدونه في الظاهر ولا يعبدونه في السر وهو قول أبي مسلم. والوجه الأول : أقوى لأنه تعالى بين أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه


الصفحة التالية
Icon