مفاتيح الغيب، ج ٢١، ص : ٥٥٣
مشاهد حاصل، لذلك قال بعده : إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا أما قوله : مَأْتِيًّا فقيل إنه مفعول بمعنى فاعل والوجه أن الوعد هو الجنة وهم يأتونها، قال الزجاج : كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه وما أتاك فقد أتيته والمقصود من قوله : إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا بيان أن الوعد منه تعالى وإن كان بأمر غائب فهو كأنه مشاهد وحاصل / والمراد تقرير ذلك في القلوب. وثانيها : قوله : لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً [مريم : ٦٢] واللغو من الكلام ما سبيله أن يلغي ويطرح وهو المنكر من القول ونظيره قوله : لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً [الغاشية : ١١] وفيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنب اللغو حيث نزه اللّه تعالى عنه الدار التي لا تكليف فيها وما أحسن قوله : وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان : ٧٢]، وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [القصص : ٥٥] أما قوله : إِلَّا سَلاماً ففيه بحثان :
البحث الأول : أن فيه إشكالا وهو أن السلام ليس من جنس اللغو فكيف استثنى السلام من اللغو والجواب عنه من وجوه : أحدها : أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة وأهل الجنة لا حاجة بهم إلى هذا الدعاء فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وثانيها : أن يحمل ذلك على الاستثناء المنقطع. وثالثها : أن يكون هذا من جنس قول الشاعر :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
البحث الثاني : أن ذلك السلام يحتمل أن يكون من سلام بعضهم على بعض أو من تسليم الملائكة أو من تسليم اللّه تعالى على ما قال تعالى : وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد : ٢٣، ٢٤] وقوله : سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس : ٥٨]. ورابعها : قوله تعالى :
وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا وفيه سؤالان : السؤال الأول : أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بأحوال مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشيا ليس من الأمور المستعظمة. والجواب من وجهين :
الأول : قال الحسن أراد اللّه تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا ولذلك ذكر أساور من الذهب والفضة ولبس الحرير التي كانت عادة العجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة وكانت من عادة أشراف العرب في اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك. الثاني : أن المراد دوام الرزق كما تقول أنا عند فلان صباحا ومساء وبكرة وعشيا تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين. السؤال الثاني : قال تعالى : لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الإنسان : ١٣] وقال عليه السلام :«لا صباح عند ربك ولا مساء»
والبكرة والعشي لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء. والجواب : المراد أنهم يأكلون عند مقدار الغداة والعشي إلا أنه ليس في الجنة غدوة وعشي إذ لا ليل فيها ويحتمل ما قيل إنه تعالى جعل لقدر اليوم علامة يعرفون بها مقادير الغداة والعشي ويحتمل أن يكون المراد لهم رزقهم متى شاءوا كما جرت العادة في الغداة والعشي. وخامسها : قوله : تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا وفيه أبحاث : الأول : قوله :
تِلْكَ الْجَنَّةُ هذه الإشارة إنما صحت لأن الجنة غائبة. وثانيها : ذكروا في نورث وجوها الأول : نورث استعارة أي نبقي عليه الجنة كما نبقي على الوارث مال المورث. الثاني : أن المراد أنا ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم فجعل هذا النقل إرثا قاله الحسن. الثالث : أن الأتقياء يلقون ربهم يوم القيامة وقد انقضت أعمالهم وثمراتها باقية وهي الجنة فإذا أدخلهم / الجنة فقد أورثهم من تقواهم كما يرث


الصفحة التالية
Icon