مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٢٤
الدليل على قول ابن عباس ولعل ابن عباس ذكر حضور بأنها إحدى القرى التي أرادها اللَّه تعالى بهذه الآية، وأما قوله تعالى : فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ فالمعنى لما علموا شدة عذابنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا في ديارهم، والركض ضرب الدابة بالرجل، ومنه قوله تعالى : ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فيجوز أن يكونوا ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب، ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين، أما قوله : لا تَرْكُضُوا قال صاحب «الكشاف» : القول محذوف، فإن قلت من القائل قلنا يحتمل أن يكون بعض الملائكة ومن ثم من المؤمنين، أو يكونوا خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثون به نفوسهم، أما قوله : وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ أي من العيش والرفاهية والحال الناعمة، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفه، أما قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ فهو تهكم بهم وتوبيخ، ثم فيه وجوه :
أحدها : أي ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة. وثانيها : ارجعوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم بم تأمرون وما ذا ترسمون المخدومين. وثالثها : تسألكم الناس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات ويستعينون بآرائكم. ورابعها : يسألكم الوافدون عليكم والطامعون فيكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم وتوبيخا إلى توبيخ، أما قوله تعالى : فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ فقال صاحب «الكشاف» تلك إشارة إلى يا وَيْلَنا لأنها عدوى كأنه قيل فما زالت تلك الدعوى دعواهم، والدعوى بمعنى الدعوة قال تعالى : وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس : ١٠] فإن قلت : لم سميت دعوى؟ قلت : لأنهم كانوا دعوا بالويل : ف قالُوا يا وَيْلَنا أي يا ويل احضر فهذا وقتك، وتلك مرفوع أو منصوب اسما أو خبرا وكذلك : دَعْواهُمْ قال المفسرون : لم يزالوا يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله تعالى : فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا [غافر : ٨٥] أما قوله : حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ / فالحصيد الزرع المحصود أي جعلناهم مثل الحصيد شبههم به في استئصالهم، كما تقول جعلناهم رمادا أي مثل الرماد فإن قيل : كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل، قلت : حكم الاثنين الآخرين حكم الواحد والمعنى جعلناهم جامعين لهذين الوصفين، والمراد أنهم أهلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق لهم حس ولا حركة وجفوا كما يجف الحصيد، وتخمدوا كما تخمد النار.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١٦ إلى ١٨]
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨)
اعلم أن فيه مسائل :
المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان : الأول : أنه تعالى لما بين إهلاك أهل القرية لأجل تكذيبهم اتبعه بما يدل على أنه فعل ذلك عدلا منه ومجازاة على ما فعلوا فقال : وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أي وما سوينا هذا السقف المرفوع وهذا المهاد الموضوع وما بينهما من العجائب والغرائب كما


الصفحة التالية
Icon