مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٥٨
وبنوا بنيانا كالحظيرة، وذلك قوله : قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات : ٩٧] ثم جمعوا له الحطب الكثير حتى أن المرأة لو مرضت قالت : إن عافاني اللَّه لأجعلن حطبا لإبراهيم، ونقلوا له الحطب على الدواب أربعين يوما، فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق، ثم أخذوا إبراهيم عليه السلام ورفعوه على رأس البنيان وقيدوه، ثم اتخذوا منجنيقا ووضعوه فيه مقيدا مغلولا، فصاحت السماء والأرض ومن فيها من الملائكة إلا الثقلين صيحة واحدة، أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم، وإنه يحرق فيك فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه : إن استغاث بأحد منكم فأغيثوه، وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه، فخلوا بيني وبينه، فلما أرادوا إلقاءه في النار، أتاه خازن الرياح فقال : إن شئت طيرت النار في الهواء، فقال إبراهيم عليه السلام : لا حاجة بي إليكم، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال :«اللهم أنت الواحد في السماء، وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري، أنت حسبنا ونعم الوكيل» وقيل إنه حين ألقي في النار قال :«لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد / ولك الملك، لا شريك لك» ثم وضعوه في المنجنيق ورموا به النار، فأتاه جبريل عليه السلام وقال : يا إبراهيم هل لك حاجة، قال : أما إليك فلا؟ قال : فاسأل ربك، قال : حسبي من سؤالي علمه بحالي.
فقال اللَّه تعالى : يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ وقال السدي : إنما قال ذلك جبريل عليه السلام، قال ابن عباس رضي اللَّه عنهما في رواية مجاهد : ولو لم يتبع بردا سلاما لمات إبراهيم من بردها، قال : ولم يبق يومئذ في الدنيا نار إلا طفئت، ثم قال السدي : فأخذت الملائكة بضبعي إبراهيم وأقعدوه في الأرض، فإذا عين ماء عذب، وورد أحمر، ونرجس. ولم تحرق النار منه إلا وثاقه، وقال المنهال بن عمرو أخبرت أن إبراهيم عليه السلام لما ألقى في النار كان فيها إما أربعين يوما أو خمسين يوما، وقال : ما كنت أياما أطيب عيشا مني إذ كنت فيها، وقال ابن إسحاق : بعث اللَّه ملك الظل في صورة إبراهيم، فقعد إلى جنب إبراهيم يؤنسه، وأتاه جبريل بقميص من حرير الجنة، وقال : يا إبراهيم إن ربك يقول : أما علمت أن النار لا تضر أحبابي، ثم نظر نمروذ من صرح له وأشرف على إبراهيم فرآه جالسا في روضة، ورأى الملك قاعدا إلى جنبه وما حوله نار تحرق الحطب، فناداه نمروذ : يا إبراهيم هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال : نعم، قال : قم فاخرج، فقام يمشي حتى خرج منها، فلما خرج قال له نمروذ : من الرجل الذي رأيته معك في صورتك؟ قال : ذاك ملك الظل أرسله ربي ليؤنسني فيها. فقال نمروذ :
إني مقرب إلى ربك قربانا لما رأيت من قدرته وعزته فيما صنع بك. فإني ذابح له أربعة آلاف بقرة، فقال إبراهيم عليه السلام : لا يقبل اللَّه منك ما دمت على دينك، فقال نمروذ : لا أستطيع ترك ملكي، ولكن سوف أذبحها له، ثم ذبحها له وكف عن إبراهيم عليه السلام،
ورويت هذه القصة على وجه آخر، وهي أنهم بنوا لإبراهيم بنيانا وألقوه فيه، ثم أوقدوا عليه النار سبعة أيام، ثم أطبقوا عليه، ثم فتحوا عليه من الغد، فإذا هو غير محترق يعرق عرقا، فقال لهم هاران أبو لوط : إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار، ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله، فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته، فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته.
المسألة الثالثة : إنما اختاروا المعاقبة بالنار لأنها أشد العقوبات، ولهذا قيل : إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم تنصرون آلهتكم نصرا شديدا، فاختاروا أشد العقوبات وهي الإحراق.
أما قوله تعالى : قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ ففيه مسائل :