مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٦٣
أما قوله تعالى : فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ فالمراد بالأهل هاهنا أهل دينه، وفي تفسير الكرب وجوه : أحدها : أنه العذاب النازل بالكفار وهو الغرق وهو قول أكثر المفسرين. وثانيها : أنه تكذيب قومه إياه وما لقي منهم من الأذى. وثالثها : أنه مجموع الأمرين وهو قول ابن عباس رضي اللَّه عنهما وهو الأقرب لأنه عليه السلام كان قد دعاهم إلى اللَّه تعالى مدة طويلة وكان قد ينال منهم كل مكروه، وكان الغم يتزايد بسبب ذلك وعند إعلام اللَّه تعالى إياه أنه يغرقهم وأمره باتخاذ الفلك كان أيضا على غم وخوف من حيث لم يعلم من الذي يتخلص / من الغرق ومن الذي يغرق فأزال اللَّه تعالى عنه الكرب العظيم بأن خلصه من جميع ذلك وخلص جميع من آمن به معه.
أما قوله تعالى : وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ فقراءة أبي بن كعب ونصرناه على القوم ثم قال المبرد : تقديره ونصرناه من مكروه القوم، وقال تعالى : فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ [غافر : ٢٩] أي يعصمنا من عذابه، قال أبو عبيدة : من بمعنى على. وقال صاحب «الكشاف» : إنه نصر الذي مطاوعه انتصر وسمعت هذليا يدعو على سارق : اللهم انصرهم منه، أي اجعلهم منتصرين منه.
أما قوله تعالى : إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فالمعنى أنهم كانوا قوم سوء لأجل ردهم عليه وتكذيبهم له فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ، فبين ذلك الوجه الذي به خلصه منهم.
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ٧٨ إلى ٨٢]
وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢)
القصة الخامسة، قصة داود وسليمان عليهما السلام
[في قوله تعالى وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إلى قوله آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً] اعلم أن قوله تعالى : وداود وسليمان وأيوب وزكريا وذا النون، كله نسق على ما تقدم من قوله : وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء : ٥١] ومن قوله : وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً [الأنبياء : ٧٤] واعلم أن المقصود ذكر نعم اللَّه تعالى على داود وسليمان فذكر أولا النعمة المشتركة بينهما، ثم ذكر ما يختص به كل / واحد منهما من النعم. أما النعمة المشتركة فهي القصة المذكورة وهيقصة الحكومة، ووجه النعمة فيها أن اللَّه تعالى زينهما بالعلم. والفهم في قوله : وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ثم في هذا تنبيه على أن العلم أفضل الكمالات وأعظمها، وذلك لأن اللَّه تعالى قدم ذكره هاهنا على سائر النعم الجليلة مثل تسخير الجبال والطير والريح والجن. وإذا كان العلم مقدما على أمثال هذه الأشياء فما ظنك بغيرها وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال ابن السكيت النفش أن تنتشر الغنم بالليل ترعى بلا راع، وهذا قول جمهور المفسرين، وعن الحسن أنه يجوز ذلك ليلا ونهارا.


الصفحة التالية
Icon