مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٨٠
للأمر والنهي والجاهل باللَّه لا يكون مؤمنا فضلا عن أن يكون نبيا، وأما ما
روي أنه خرج مغاضبا لأمر يرجع إلى الاستعداد، وتناول النفل فمما يرتفع حال الأنبياء عليهم السلام عنه،
لأن اللَّه تعالى إذا أمرهم بشيء فلا يجوز أن يخالفوه لقوله تعالى : وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب : ٣٦] وقوله : فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ إلى قوله : ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ [النساء : ٦٥] فإذا كان في الاستعداد مخالفة لم يجز أن يقع ذلك منهم، وإذا ثبت أنه لا يجوز صرف هذه المغاضبة إلى اللَّه تعالى، وجب أن يكون المراد أنه خرج مغاضبا لغير اللَّه، والغالب أنه إنما يغاضب من يعصيه فيما يأمره به فيحتمل قومه أو الملك أو هما جميعا، ومعنى مغاضبته لقومه أنه أغضبهم بمفارقته لخوفهم حلول العذاب عليهم عندها، وقرأ أبو شرف مغضبا.
أما قوله مغاضبة القوم أيضا كانت محظورة لقوله تعالى : وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم : ٤٨] قلنا لا نسلم أنها كانت محظورة، فإن اللَّه تعالى أمره بتبليغ تلك الرسالة إليهم، وما أمره بأن يبقى معهم أبدا فظاهر الأمر لا يقتضي التكرار، فلم يكن خروجه من بينهم معصية، وأما الغضب فلا نسلم أنه معصية وذلك لأنه لما لم يكن منهيا عنه قبل ذلك فظن أن ذلك جائز، من حيث إنه لم يفعله إلا غضبا للَّه تعالى وأنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، بل كان الأولى له أن يصابر وينتظر الإذن من اللَّه / تعالى في المهاجرة عنهم، ولهذا قال تعالى : وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ كأن اللَّه تعالى أراد لمحمد صلى اللَّه عليه وسلم أفضل المنازل وأعلاها. والجواب عن الشبهة الثانية :
وهي التمسك بقوله تعالى : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أن نقول من ظن عجز اللَّه تعالى فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إلى آحاد المؤمنين، فكيف إلى الأنبياء عليهم السلام فإذن لا بد فيه من التأويل وفيه وجوه :
أحدها : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ لن نضيق عليه، وهو كقوله تعالى : اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ [العنكبوت : ١٢] أي يضيق : وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق : ٧] أي ضيق : وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ [الفجر : ١٦] أي ضيق ومعناه أن لن نضيق عليه، واعلم أن على هذا التأويل تصير الآية حجة لنا، وذلك لأن يونس عليه السلام ظن أنه مخير إن شاء أقام وإن شاء خرج، وأنه تعالى لا يضيق عليه في اختياره، وكان في المعلوم أن الصلاح في تأخر خروجه، وهذا من اللَّه تعالى بيان لما يجري مجرى العذر له من حيث خرج، لا على تعمد المعصية لكن لظنه أن الأمر في خروجه موسع يجوز أن يقدم ويؤخر، وكان الصلاح خلاف ذلك. وثانيها : أن يكون هذا من باب التمثيل بمعنى فكانت حالته ممثلة بحالة من ظن أن لن نقدر عليه في خروجه من قومه من غير انتظار لأمر اللَّه تعالى. وثالثها : أن تفسر القدرة بالقضاء فالمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي، ورواية العوفي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهم واختيار الفراء والزجاج، قال الزجاج : نقدر بمعنى نقدر. يقال : قدر اللَّه الشيء قدرا وقدره تقديرا، فالقدر بمعنى التقدير وقرأ عمر بن عبد العزيز والزهري : فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ بضم النون والتشديد من التقدير، وقرأ عبيد بن عمر بالتشديد على المجهول وقرأ يعقوب :(يقدر عليه) بالتخفيف على المجهول، وروي أنه دخل ابن عباس رضي اللَّه عنهما على معاوية رضي اللَّه عنه، فقال معاوية : لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها فلم أجد لنفسي خلاصا إلا بك فقال : وما هي؟ قال : يظن نبي اللَّه أن لن يقدر اللَّه عليه؟ فقال ابن عباس رضي اللَّه عنهما هذا من القدر لا من القدرة.
ورابعها : فظن أن لن نقدر : أي فظن أن لن نفعل لأن بين القدرة والفعل


الصفحة التالية
Icon