مفاتيح الغيب، ج ٢٢، ص : ١٨٥
من ينكر البعث، وتحقيق ما تقدم أنه لا / كفران لسعي أحد فإنه سبحانه سيعطيه الجزاء على ذلك يوم القيامة وهو تأويل أبي مسلم بن بحر. وأما الثاني : فيكون المعنى أن رجوعهم إلى الدنيا واجب لكن المعلوم أنهم لم يرجعوا إلى الدنيا فعند هذا ذكر المفسرون وجهين : الأول : أن الحرام قد يجيء بمعنى الواجب والدليل عليه الآية والاستعمال والشعر، أما الآية فقوله تعالى : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [الأنعام : ١٥١] وترك الشرك واجب وليس بمحرم، وأما الشعر فقول الخنساء :
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا على شجوه إلا بكيت على عمرو
يعني وإن واجبا، وأما الاستعمال فلأن تسمية أحد الضدين باسم الآخر مجاز مشهور كقوله تعالى :
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : ٤٠] إذا ثبت هذا فالمعنى أنه واجب على أهل كل قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون، ثم ذكروا في تفسير الرجوع أمرين : أحدهما : أنهم لا يرجعون عن الشرك ولا يتولون عنه وهو قول مجاهد والحسن. وثانيها : لا يرجعون إلى الدنيا وهو قول قتادة ومقاتل. الوجه الثاني : أن يترك قوله وحرام على ظاهره ويجعل في قوله : لا يَرْجِعُونَ صلة زائدة كما أنه صلة في قوله : ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف : ١٢] والمعنى حرام على قرية أهلكناها رجوعهم إلى الدنيا وهو كقوله : فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس : ٥٠] أو يكون المعنى وحرام عليهم رجوعهم عن الشرك وترك الأيمان، وهذا قول طائفة من المفسرين، وهذا كله إذا جعلنا قوله وحرام خبرا لقوله : أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ أما إذا جعلناه خبرا لشيء آخر فالتقدير وحرام على قرية أهلكناها ذاك، وهو المذكور في الآية المتقدمة من العمل الصالح والسعي المشكور غير المكفور ثم علل فقال : أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ عن الكفر فكيف لا يمتنع، ذلك هذا على قراءة إنهم بالكسر والقراءة بالفتح يصح حملها أيضا على هذا أي أنهم لا يرجعون.
أما قوله تعالى : حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ففيه مسائل :
المسألة الأولى : أن (حتى) متعلقة بحرام فأما على تأويل أبي مسلم فالمعنى أن رجوعهم إلى الآخرة واجب حتى أن وجوبه يبلغ إلى حيث أنه إذا فتحت يأجوج ومأجوج، واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا، والمعنى أنهم يكونون أول الناس حضورا في محفل القيامة، فحتى متعلقة بحرام وهي غاية له ولكنه غاية من جنس الشيء كقولك دخل الحاج حتى المشاة. وحتى هاهنا هي التي يحكى بعدها الكلام.
والكلام المحكي هو هذه الجملة من الشرط والجزاء أعني قوله : إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ... وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فهناك يتحقق شخوص أبصار الذين كفروا، وذلك غير جائز لأن الشرط إنما يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل في يوم القيامة، والشرط والجزاء لا بد وأن يكونا متقاربين، قلنا التفاوت القليل يجري مجرى المعدوم، وأما على التأويلات الباقية فالمعنى أن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم الساعة.
المسألة الثانية : قوله : حَتَّى إِذا فُتِحَتْ المعنى فتح سد يأجوج ومأجوج فحذف المضاف وأدخلت علامة التأنيث في فتحت لما حذف المضاف لأن يأجوج ومأجوج مؤنثان بمنزلة القبيلتين، وقيل حتى إذا فتحت جهة يأجوج.


الصفحة التالية
Icon