مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٢٦٦
الشيء فقد علاه، ويجوز أن يكون المعنى، والبركات والخيرات كلها من اللَّه تعالى، وقيل أصله من البروك وهو الثبات، فكأنه قال والبقاء والدوام. والبركات كلها منه فهو المستحق للتعظيم والثناء، وقوله : أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أي أحسن المقدرين تقديرا فترك ذكر المميز لدلالة الخالقين عليه وهاهنا مسائل :
المسألة الأولى : قالت المعتزلة لولا أن اللَّه تعالى قد يكون خالقا لفعله إذا قدره لما جاز القول بأنه أحسن الخالقين، كما لو لم يكن في عباده من يحكم ويرحم لم يجز أن يقال فيه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، والخلق في اللغة هو كل فعل وجد من فاعله مقدرا لا على سهو وغفلة، والعباد قد يفعلون ذلك على هذا الوجه، قال الكعبي هذه الآية، وإن دلت على أن العبد خالق إلا أن اسم الخالق لا يطلق على العبد إلا مع القيد كما أنه يجوز أن يقال رب الدار، ولا يجوز أن يقال رب بلا إضافة، ولا يقول العبد لسيده هو ربي، ولا يقال إنما قال اللَّه تعالى ذلك لأنه سبحانه وصف عيسى عليه السلام بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير لأنا نجيب عنه من وجهين : أحدهما : إن ظاهر الآية يقتضي أنه سبحانه أَحْسَنُ الْخالِقِينَ الذين هم جمع فحمله على عيسى خاصة لا يصح الثاني : أنه إذا صح وصف عيسى بأنه يخلق صح وصف غيره من المصورين أيضا بأنه يخلق؟
وأجاب أصحابنا بأن هذه الآية معارضة بقول اللَّه تعالى : اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر : ٦٢] فوجب حمل هذه الآية على أنه أَحْسَنُ الْخالِقِينَ في اعتقادكم وظنكم، كقوله تعالى : وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم : ٢٧] أي هو أهون عليه في اعتقادكم وظنكم والجواب الثاني : هو أن الخالق هو المقدر لأن الخلق هو التقدير والآية تدل على أنه سبحانه أحسن المقدرين، والتقدير يرجع معناه إلى الظن والحسبان، وذلك في حق اللَّه سبحانه محال، فتكون الآية من المتشابهات والجواب الثالث : أن الآية تقتضي / كون العبد خالقا بمعنى كونه مقدرا، لكن لم قلت بأنه خالق بمعنى كونه موجدا.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة الآية تدل على أن كل ما خلقه حسن وحكمة وصواب وإلا لما جاز وصفه بأنه أحسن الخالقين، وإذا كان كذلك وجب أن لا يكون خالقا للكفر والمعصية فوجب أن يكون العبد هو الموجد لهما؟ والجواب : من الناس من حمل الحسن على الإحكام والإتقان في التركيب والتأليف، ثم لو حملناه على ما قالوه فعندنا أنه يحسن من اللَّه تعالى كل الأشياء لأنه ليس فوقه أمر ونهي حتى يكون ذلك مانعا له عن فعل شيء.
المسألة الثالثة :
روى الكلبي عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما أن عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح كان يكتب هذه الآيات لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فلما انتهى إلى قوله تعالى : خَلْقاً آخَرَ عجب من ذلك فقال : فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم :«اكتب فهكذا نزلت» فشك عبد اللَّه وقال إن كان محمد صادقا فيما يقول فإنه يوحى إلي كما يوحى إليه، وإن كان كاذبا فلا خير في دينه فهرب إلى مكة
فقيل إنه مات على الكفر، وقيل إنه أسلم يوم الفتح، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية قال عمر بن الخطاب : فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم هكذا نزلت يا عمر.
وكان عمر يقول : وافقني ربي في أربع، في الصلاة خلف المقام، وفي ضرب الحجاب على النسوة، وقولي لهن : لتنتهن أو ليبدلنه اللَّه خيرا منكن، فنزل قوله تعالى : عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ [التحريم : ٥] والرابع قلت : فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال هكذا نزلت. قال العارفون هذه الواقعة كانت سبب السعادة لعمر، وسبب الشقاوة لعبد


الصفحة التالية
Icon