مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٢٦٧
اللَّه كما قال تعالى : يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة : ٢٦] فإن قيل فعلى كل الروايات قد تكلم البشر ابتداء بمثل نظم القرآن، وذلك يقدح في كونه معجزا كما ظنه عبد اللَّه والجواب : هذا غير مستبعد إذا كان قدره القدر الذي لا يظهر فيه الإعجاز فسقطت شبهة عبد اللَّه.
المرتبة الثامنة : قوله : ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ قرأ ابن أبي عبلة وابن محيصن لمائتون والفرق بين الميت والمائت، أن الميت كالحي صفة ثابتة، وأما المائت فيدل على الحدوث تقول زيد ميت الآن ومائت غدا، وكقولك يموت ونحوهما ضيق وضائق في قوله : وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [هود : ١٢].
المرتبة التاسعة : قوله : ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ فاللَّه سبحانه جعل الإماتة التي هي إعدام الحياة والبعث الذي هو إعادة ما يفنيه ويعدمه دليلين أيضا على اقتدار عظيم بعد الإنشاء والاختراع وهاهنا سؤالات :
السؤال الأول : ما الحكمة في الموت، وهلا وصل نعيم الآخرة وثوابها بنعيم الدنيا فيكون ذلك في الأنعام أبلغ؟ والجواب : هذا كالمفسدة في حق المكلفين لأنه متى عجل للمرء الثواب فيما يتحمله من المشقة في الطاعات صار إتيانه بالطاعات لأجل تلك المنافع لا لأجل طاعة اللَّه، يبين ذلك أنه لو قيل لمن يصلي ويصوم إذا فعلت ذلك أدخلناك الجنة في الحال، فإنه لا يأتي بذلك الفعل / إلا لطلب الجنة، فلا جرم أخره اللَّه تعالى وبعده بالإماتة ثم الإعادة ليكون العبد عابدا لربه بطاعته لا لطلب الانتفاع.
السؤال الثاني : هذه الآية تدل على نفي عذاب القبر لأنه قال : ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ ولم يذكر بين الأمرين الإحياء في القبر والإماتة والجواب : من وجهين : الأول : أنه ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة والثاني : أن الغرض من ذكر هذه الأجناس الثلاثة الإنشاء والإماتة والإعادة، والذي ترك ذكره فهو من جنس الإعادة.
النوع الثاني : من الدلائل الاستدلال بخلقة السموات وهو قوله تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ [المؤمنون : ١٧].
فقوله : سَبْعَ طَرائِقَ [المؤمنون : ١٧] أي سبع سموات وإنما قيل لها طرائق لتطارقها بمعنى كون بعضها فوق بعض يقال طارق الرجل نعليه إذا أطبق نعلا على نعل وطارق بين ثوبين إذا لبس ثوبا فوق ثوب.
هذا قول الخليل والزجاج والفراء قال الزجاج هو كقوله : سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً [نوح : ١٥] وقال علي بن عيسى سميت بذلك لأنها طرائق للملائكة في العروج والهبوط والطيران، وقال آخرون لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها والوجه في إنعامه علينا بذلك أنه تعالى جعلها موضعا لأرزاقنا بإنزال الماء منها، وجعلها مقرا للملائكة، ولأنها موضع الثواب، ولأنها مكان إرسال الأنبياء ونزول الوحي.
أما قوله : وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ [المؤمنون : ١٧] ففيه وجوه : أحدها : ما كنا غافلين بل كنا للخلق حافظين من أن تسقط عليهم الطرائق السبع فتهلكهم وهذا قول سفيان بن عيينة، وهو كقوله تعالى : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا [فاطر : ٤١] وثانيها : إنما خلقناها فوقهم لننزل عليهم الأرزاق والبركات منها عن الحسن وثالثها : أنا خلقنا هذه الأشياء فدل خلقنا لها على كمال قدرتنا ثم بين كمال العلم بقوله : وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ [المؤمنون : ١٧] يعني عن أعمالهم وأقوالهم وضمائرهم وذلك يفيد نهاية الزجر


الصفحة التالية
Icon