مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٢٨٢
أما قوله تعالى : كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فمعناه أن كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه دينا لنفسه معجب به يرى المحق أنه الرابح، وأن غيره المبطل الخاسر، ولما ذكر اللَّه تعالى تفرق هؤلاء في دينهم أتبعه بالوعيد، وقال : فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ
الخطاب لنبينا صلى اللَّه عليه وسلم يقول :«فدع هؤلاء الكفار في جهلهم والغمرة الماء الذي بغمر القامة فكأن ما هم فيه من الجهل والحيرة صار غامرا ساترا لعقولهم». وعن علي عليه السلام : في غمراتهم حتى حين
وذكروا في الحين وجوها : أحدها : إلى حين الموت وثانيها : إلى حين المعاينة وثالثها : إلى حين العذاب، والعادة في ذلك أن يذكر في الكلام، والمراد به الحالة التي تقترن بها الحسرة والندامة، وذلك يحصل إذا عرفهم اللَّه بطلان ما كانوا عليه وعرفهم سوء منقلبهم، ويحصل أيضا عند المحاسبة في الآخرة، ويحصل عند عذاب القبر والمسألة فيجب أن يحمل على كل ذلك.
ولما كان القوم في نعم عظيمة في الدنيا جاز أن يظنوا أن تلك النعم كالثواب المعجل لهم على أديانهم، فبين سبحانه أن الأمر بخلاف ذلك، فقال : أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ قرئ يمدهم ويسارع بالياء والفاعل هو اللَّه سبحانه وفي المعنى وجهان : أحدهما : أن هذا الإمداد ليس إلا استدراجا لهم في المعاصي، واستجرارا لهم في زيادة الإثم وهم يحسبونه مسارعة في الخيرات وبل للاستدراك لقوله : أَيَحْسَبُونَ يعني بل هم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في ذلك، أهو استدراج أم مسارعة في الخير، وهذه الآية كقوله : وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ [التوبة : ٨٥]
روي عن يزيد بن ميسرة : أوحى اللَّه تعالى إلى نبي من الأنبياء «أ يفرح عبدي أن أبسط له الدنيا وهو أبعد له مني، ويجزع أن أقبض عنه الدنيا وهو أقرب له مني» ثم تلا : أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ
وعن الحسن : لما أتى عمر بسوار كسرى فأخذه ووضعه في يد سراقة فبلغ منكبه. فقال عمر اللهم إني قد علمت أن نبيك عليه الصلاة / والسلام، كان يحب أن يصيب مالا لينفقه في سبيلك، فزويت ذلك عنه نظرا. ثم إن أبا بكر كان يحب ذلك، اللهم لا يكن ذلك مكرا منك بعمر. ثم تلا : أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ الوجه الثاني : وهو أنه سبحانه إنما أعطاهم هذه النعم ليكونوا فارغي البال، متمكنين من الاشتغال بكلف الحق، فإذا أعرضوا عن الحق والحالة هذه، كان لزوم الحجة عليهم أقوى، فلذلك قال : بَلْ لا يَشْعُرُونَ.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٥٧ إلى ٦١]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١)
اعلم أنه تعالى لما ذم من تقدم ذكره بقوله : أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ثم قال : بَلْ لا يَشْعُرُونَ بين بعده صفات من يسارع في الخيرات ويشعر بذلك وهي أربعة :
الصفة الأولى : قوله : إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ والإشفاق يتضمن الخشية مع زيادة رقة وضعف، فمنهم من قال : جمع بينهما للتأكيد، ومنهم من حمل الخشية على العذاب، والمعنى الذين هم من


الصفحة التالية
Icon