مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٣٤٣
وذلك من العظائم وثانيها : أنهم كانوا يتكلمون بما لا علم لهم به، وذلك يدل على أنه لا يجوز الإخبار إلا مع العلم فأما الذي لا يعلم صدقه فالإخبار عنه كالإخبار عما علم كذبه في الحرمة، ونظيره قوله : وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [الإسراء : ٣٦] فإن قيل ما معنى قوله : بِأَفْواهِكُمْ والقول لا يكون إلا بالفم؟ قلنا معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب فيترجم عنه باللسان وهذا الإفك ليس إلا قولا يجري على ألسنتكم من غير أن يحصل في القلب علم به، كقوله : يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران : ١٦٧] وثالثها : أنهم كانوا يستصغرون ذلك وهو من عظيم من العظائم، ويدل على أمور ثلاثة : الأول : يدل على أن القذف من الكبائر لقوله : وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ الثاني : نبه بقوله : وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً على أن عظم المعصية لا يختلف بظن فاعلها وحسبانه، بل ربما كان ذلك مؤكدا لعظمها من حيث جهل كونها عظيما، / الثالث : الواجب على المكلف في كل محرم أن يستعظم الإقدام عليه، إذ لا يأمن أنه من الكبائر، وقيل لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار.
[سورة النور (٢٤) : آية ١٦]
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦)
النوع الخامس [في قوله تعالى وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا] وهذا من باب الآداب، أي هلا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، وإنما وجب عليهم الامتناع منه لوجوه : أحدها : أن المقتضى لكونهم تاركين لهذا الفعل قائم وهو العقل والدين، ولم يوجد ما يعارضه فوجب أن يكون ظن كونهم تاركين للمعصية أقوى من ظن كونهم فاعلين لها، فلو أنه أخبر عن صدور المعصية لكان قد رجح المرجوح على الراجح وهو غير جائز وثانيها : وهو أنه يتضمن إيذاء الرسول وذلك سبب للعن لقوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب : ٥٧] وثالثها : أنه سبب لإيذاء عائشة وإيذاء أبويها ومن يتصل بهم من غير سبب عرف إقدامهم عليه، ولا جناية عرف صدورها عنهم، وذلك حرام ورابعها : أنه إقدام على ما يجوز أن يكون سبا للضرر مع الاستغناء عنه، والعقل يقتضي التباعد عنه لأن القاذف بتقدير كونه صادقا لا يستحق الثواب على صدقه بل يستحق العقاب لأنه أشاع الفاحشة، وبتقدير كونه كاذبا فإنه فيه يستحق العقاب العظيم، ومثل ذلك مما يقتضي صريح العقل الاحتراز عنه وخامسها : أنه تضييع للوقت بما لا فائدة فيه، وقال عليه الصلاة والسلام :«من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
وسادسها : أن في إظهار محاسن الناس وستر مقابحهم تخلقا بأخلاق اللَّه تعالى، وقال عليه السلام :«تخلقوا بأخلاق اللَّه»
فهذه الوجوه توجب على العاقل أنه إذا سمع القذف أن يسكت عنه وأن يجتهد في الاحتراز عن الوقوع فيه، فإن قيل كيف جاز الفصل بين لولا وبين قلتم بالظرف؟ قلنا الفائدة فيه أنه كان الواجب عليهم أن يحترزوا أول ما سمعوا بالإفك عن التكلم به.
أما قوله : سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ ففيه سؤالان :
السؤال الأول : كيف يليق سبحانك بهذا الموضع؟ الجواب : من وجوه : الأول : المراد منه التعجب من عظم الأمر، وإنما استعمل في معنى التعجب لأنه يسبح اللَّه عند رؤية العجيب من صانعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه الثاني : المراد تنزيه اللَّه تعالى عن أن تكون زوجة نبيه فاجرة الثالث : أنه منزه عن أن يرضى


الصفحة التالية
Icon