مفاتيح الغيب، ج ٢٣، ص : ٣٥٠
نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى
[الليل : ١٧- ٢٠] وقال في حق علي : إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً [الإنسان : ٩، ١٠] فعلي أعطى للخوف من العقاب، وأبو بكر ما أعطى إلا لوجه ربه الأعلى، فدرجة أبي بكر أعلى فكانت عطيته في الإفضال أتم وأكمل ورابعها : أنه قال : أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ فكلمة من للتمييز، فكأنه سبحانه ميزه عن كل المؤمنين بصفة كونه أولي الفضل، والصفة التي بها يقع الامتياز يستحيل حصولها في الغير، وإلا لما كانت مميزة له بعينه، فدل ذلك على أن هذه الصفة خاصة فيه لا في غيره البتة وخامسها : أمكن حمل الفضل على طاعة اللَّه تعالى وخدمته وقوله : وَالسَّعَةِ على الإحسان إلى المسلمين، فكأنه كان مستجمعا للتعظيم لأمر اللَّه تعالى والشفقة على خلق اللَّه وهما من أعلى مراتب الصديقين، وكل من كان كذلك كان اللَّه معه لقوله : إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ولأجل اتصافه بهاتين الصفتين قال له : لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة : ٤٠] وسادسها : إنما يكون الإنسان موصوفا بالسعة لو كان جوادا بذولا، ولقد قال عليه الصلاة والسلام :«خير الناس من ينفع الناس»
فدل على أنه خير الناس من هذه الجهة، ولقد كان رضي اللَّه عنه جوادا بذولا في كل شيء، ومن جوده أنه لما أسلم بكرة اليوم جاء بعثمان بن عفان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعثمان بن مظعون إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعد أن أسلموا على يده، وكان جوده في التعليم والإرشاد إلى الدين والبذل بالدنيا كما هو مشهور، فيحق له أن يوصف بأنه من أهل السعة، وأيضا فهب أن الناس اختلفوا في أنه هل كان إسلامه قبل إسلام علي أو بعده، ولكن اتفقوا على أن عليا حين أسلم لم يشتغل بدعوة الناس إلى دين محمد صلى اللَّه عليه وسلم وأن أبا بكر اشتغل بالدعوة فكان أبو بكر أول الناس اشتغالا بالدعوة إلى دين محمد، ولا شك أن أجل المراتب في الدين هذه المرتبة فوجب أن يكون أفضل الناس بعد الرسول صلى اللَّه عليه وسلم هو أبو بكر من هذه الجهة ولأنه عليه السلام قال :«من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»
فوجب أن يكون لأبي بكر مثل أجر كل من يدعو إلى اللَّه، فيدل على الأفضلية من هذه الجهة أيضا وسابعها : أن الظلم من ذوي القربى أشد، قال الشاعر :
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند
وأيضا فالإنسان إذا أحسن إلى غيره فإذا قابله ذلك الغير بالإساءة كان ذلك أشد عليه مما إذا صدرت الإساءة من الأجنبي، والجهتان كانتا مجتمعتين في حق مسطح ثم إنه آذى أبا بكر بهذا النوع من الإيذاء الذي هو أعظم أنواع الإيذاء، فانظر أين مبلغ ذلك الضرر في قلب أبي بكر، ثم إنه سبحانه أمره بأن لا يقطع عنه بره وأن يرجع معه إلى ما كان عليه من الإحسان، وذلك من أعظم أنواع المجاهدات، ولا شك أن هذا أصعب من مقاتلة الكفار لأن هذا مجاهدة مع النفس وذلك مجاهدة مع الكافر ومجاهدة النفس أشق، ولهذا
قال عليه الصلاة والسلام :«رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»
وثامنها : أن اللَّه تعالى لما أمر أبا بكر بذلك لقبه بأولي الفضل وأولي السعة كأنه سبحانه يقول أنت أفضل من أن تقابل إساءته بشيء وأنت أوسع قلبا من أن تقيم للدنيا وزنا، فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن تقطع برك عنه بسبب ما صدر منه من الإساءة، ومعلوم أن مثل هذا الخطاب يدل على نهاية الفضل والعلو في الدين وتاسعها : أن الألف واللام يفيدان العموم فالألف واللام في الفضل والسعة يدلان على أن كل الفضل وكل السعة لأبي بكر كما يقال فلان هو العالم يعني قد بلغ في الفضل


الصفحة التالية
Icon