مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٤٤٠
فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى : ٧] وإما أن يخرجه من النار ويدخله الجنة وذلك باطل لأن الجنة حق المتقين لقوله تعالى : كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً فجعل الجنة لهم ومختصة بهم وبين أنها إنما كانت لهم لكونها جزاء لهم على أعمالهم فكانت حقا لهم، وإعطاء حق الإنسان لغيره لا يجوز، ولما بطلت الأقسام ثبت أن العفو غير جائز أجاب أصحابنا لم لا يجوز أن يقال : المتقون يرضون بإدخال اللَّه أهل العفو في الجنة؟
فحينئذ لا يمتنع دخولهم فيها، الوجه الثاني : قالوا : المتقي في عرف الشرع مختص بمن اتقى الكفر والكبائر، وإن اختلفنا في أن صاحب الكبيرة هل يسمى مؤمنا أم لا، لكنا اتفقنا على أنه لا يسمى متقيا، ثم قال في وصف الجنة إنها كانت لهم جزاء ومصيرا وهذا للحصر، والمعنى أنها مصير للمتقين لا لغيرهم، وإذا كان كذلك وجب أن لا يدخلها صاحب الكبيرة، قلنا أقصى ما في الباب أن هذا العموم صريح في الوعيد فتخصه بآيات الوعد.
المسألة الثالثة : لقائل أن يقول : إن الجنة ستصير للمتقين جزاء ومصيرا، لكنها بعد ما صارت كذلك، فلم قال اللَّه تعالى : كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً؟ جوابه من وجهين : الأول : أن ما وعد اللَّه فهو في تحققه كأنه قد كان والثاني : أنه كان مكتوبا في اللوح قبل أن يخلقهم / اللَّه تعالى بأزمنة متطاولة أن الجنة جزاؤهم ومصيرهم.
أما قوله تعالى : لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ فهو نطير قوله : وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
[فصلت : ٣١] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : لقائل أن يقول أهل الدرجات النازلة إذا شاهدوا الدرجات العالية لا بد وأن يريدوها، فإذا سألوها ربهم، فإن أعطاهم إياها لم يبق بين الناقص والكامل تفاوت في الدرجة، وإن لم يعطها قدح ذلك في قوله : لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ وأيضا فالأب إذا كان ولده في درجات النيران وأشد العذاب إذا اشتهى أن يخلصه اللَّه تعالى من ذلك العذاب فلا بد وأن يسأل ربه أن يخلصه منه، فإن فعل اللَّه تعالى ذلك قدح في أن عذاب الكافر مخلد، وإن لم يفعل قدح ذلك في قوله : وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
وفي قوله : لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ وجوابه : أن اللَّه تعالى يزيل ذلك الخاطر عن قلوب أهل الجنة بل يكون اشتغال كل واحد منهم بما فيه من اللذات شاغلا عن الالتفات إلى حال غيره.
المسألة الثانية : شرط نعيم الجنة أن يكون دائما، إذ لو انقطع لكان مشوبا بضرب من الغم ولذلك قال المتنبي :
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
ولذلك اعتبر الخلود فيه فقال : لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كالتنبيه على أن حصول المرادات بأسرها لا يكون إلا في الجنة فأما في غيرها فلا يحصل ذلك، بل لا بد في الدنيا من أن تكون راحاتها مشوبة بالجراحات، ولذلك
قال عليه السلام :«من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق، فقيل وما هو يا رسول اللَّه؟ فقال سرور يوم».
أما قوله : كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا ففيه مسائل :
المسألة الأولى : كلمة (على) للوجوب
قال عليه السلام :«من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى»
فقوله :
كانَ عَلى رَبِّكَ يفيد أن ذلك واجب على اللَّه تعالى، والواجب هو الذي لو لم يفعل لاستحق تاركه بفعله الذم، أو أنه الذي يكون عدمه ممتنعا، فإن كان الوجوب على التفسير الأول كان تركه محالا، لأن تركه لما


الصفحة التالية
Icon