مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٤٤٨
فدلت الآية من هذا الوجه على جواز الرؤية الطريق الثاني : وهو كلام المعتزلة، قال القاضي تفسير اللقاء برؤية البصر جهل باللغة، فيقال في الدعاء لقاك اللَّه الخير وقد يقول القائل لم ألق الأمير وإن رآه من بعد أو حجب عنه، ويقال في الضرير لقي الأمير إذا أذن له ولم يحجب وقد يلقاه في الليلة الظلماء، ولا يراه بل المراد من اللقاء هاهنا هو المصير إلى حكمه حيث لا حكم لغيره في يوم لا تملك نفس لنفس شيئا لا أنه رؤية البصر، واعلم أن هذا الكلام ضعيف لأنا لا نفسر اللقاء برؤية البصر بل نفسره بمعنى مشترك بين رؤية البصر، وبين الاتصال والمماسة وهو الوصول إلى الشيء، وقد بينا أن الرائي يصل برؤيته إلى المرئي واللفظ الموضوع لمعنى مشترك بين معان كثيرة، ينطلق على كل واحد من تلك المعاني فيصح قوله لقاك الخير، ويصح قول الأعمى لقيت الأمير، ويصح قول البصير لقيته بمعنى رأيته وما لقيته بمعنى ما وصلت إليه، وإذا ثبت هذا فنقول قوله :
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا مذكور في معرض الذم لهم، فوجب أن يكون رجاء اللقاء حاصلا، ومسمى اللقاء مشترك بين الوصول المكاني، وبين الوصول بالرؤية، وقد تعذر الأول فتعين الثاني، وقوله المراد من اللقاء الوصول إلى حكمه صرف للفظ عن ظاهره بغير دليل، فثبت دلالة الآية على صحة الرؤية بل على وجوبها، بل على أن إنكارها ليس إلا من دين الكفار.
المسألة الثالثة : قوله : لَوْلا أُنْزِلَ معناه هلا أنزل، قال الكلبي ومقاتل : نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد وأصحابهما الذين كانوا منكرين للنبوة والبعث.
أما قوله تعالى : لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً فاعلم أن هذا هو الجواب عن تلك الشبهة، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في تقرير كونه جوابا، وذلك من وجوه : أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد ثبتت دلالة نبوة محمد صلى اللَّه عليه وسلم، فبعد ذلك يكون اقتراح أمثال هذه الآيات لا يكون إلا محض الاستكبار والتعنت وثانيها : أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك، بل لعموم كونه معجزا، فيكون قبول ذلك المعجز ورد ذلك المعجز الآخر ترجيحا لأحد المثلين على الآخر من غير مزيد فائدة ومرجح، وهو محض الاستكبار والتعنت وثالثها : أنهم بتقدير أن يروا الرب ويسألوه عن / صدق محمد صلى اللَّه عليه وسلم وهو سبحانه يقول نعم هو رسولي، فذلك لا يزيد في التصديق على إظهار المعجز على يد محمد صلى اللَّه عليه وسلم، لأنا بينا أن المعجز يقوم مقام التصديق بالقول إذا لا فرق وقد ادعى النبوة بين أن يقول اللهم إن كنت صادقا فأحيي هذا الميت فيحييه اللَّه تعالى والعادة لم تجر بمثله وبين أن يقول له صدقت، وإذا كان التصديق الحاصل بالقول أو الحاصل بالمعجز تعيين في كونه تصديقا للمدعى كان تعيين أحدهما محض الاستكبار والتعنت ورابعها : وهو أنا نعتقد أن اللَّه سبحانه وتعالى يفعل بحسب المصالح على ما يقوله المعتزلة، أن نقول إن اللَّه تعالى يفعل بحسب المشيئة على ما يقوله أصحابنا، فإن كان الأول لم يجز لهم أن يعينوا المعجز إذ ربما كان إظهار ذلك المعجز مشتملا على مفسدة لا يعرفها إلا اللَّه تعالى، وكان التعيين استكبارا وعتوا من حيث إنه لما ظنه مصلحة قطع بكونه مصلحة، فمن قال ذلك فقد اعتقد في نفسه أنه عالم بكل المعلومات، وذلك استكبار عظيم، وإن كان الثاني وهو قول أصحابنا فليس للعبد أن يقترح على ربه فإنه سبحانه فعال لما يريد فكان الاقتراح استكبارا وعتوا وخروجا عن جد العبودية إلى مقام المنازعة والمعارضة وخامسها : وهو أن


الصفحة التالية
Icon