مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٤٦٧
تأثيرا في ذلك الجواب : الظاهر وإن دل عليه لكن المتكلمون تركوه لقيام الدلالة على فساد الطبع وأما أمر الحيوان فقوله سبحانه : وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً وفيه سؤالات :
السؤال الأول : لم خص الإنسان والأنعام هاهنا بالذكر دون الطير والوحش مع انتفاع الكل بالماء؟
الجواب : لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام لأنها قنية الأناسي وعامة منافعهم متعلقة بها فكأن الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام عليهم بسقيهم.
السؤال الثاني : ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهما بالكثرة؟ الجواب : معناه أن أكثر الناس يجتمعون في البلاد القريبة من الأودية والأنهار (و منافع) «١» المياه فهم في غنية (في شرب المياه عن المطر) «٢»، وكثير منهم نازلون في البوادي فلا يجدون المياه للشرب إلا عند نزول المطر وذلك قوله : لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظان الماء ويحتمل في (كثير) أن يرجع إلى قوله : وَنُسْقِيَهُ لأن الحي يحتاج إلى الماء حالا بعد حال وهو مخالف للنبات الذي يكفيه من الماء قدر معين، حتى لو زيد عليه بعد ذلك لكان إلى الضرر أقرب، والحيوان يحتاج إليه حالا بعد حال ما دام حيا.
السؤال الثالث : لم قدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي الجواب : لأن حياة الأناسي بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو سبب حياتهم ومعيشتهم على سقيهم لأنهم إذا ظفروا بما يكون سقيا لأرضهم ومواشيهم فقد ظفروا أيضا بسقياهم وأيضا فقوله تعالى : وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ [الفرقان : ٥٠] يعني صرف المطر كل سنة إلى جانب آخر، وإذا كان كذلك فلا يسقي الكل منه بل يسقي كل سنة أناسي كثيرا منه.
السؤال الرابع : ما الأناسي؟ الجواب : قال الفراء والزجاج : الإنسي والأناسي كالكرسي والكراسي، ولم يقل كثيرين لأنه قد جاء فعيل مفردا ويراد به الكثرة كقوله : وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً [الفرقان : ٣٨] وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء : ٦٩].
واعلم أن الفقهاء قد استنبطوا أحكام المياه من قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ونحن نشير إلى معاقد تلك المسائل فنقول هاهنا نظران : أحدهما : أن الماء مطهر والثاني : أن غير الماء هل هو مطهر أم لا؟
النظر الأول : أن نقول الماء إما أن لا يتغير أو يتغير القسم الأول وهو الذي لا يتغير فهو طاهر في ذاته مطهر لغيره، إلا الماء المستعمل / فإنه عند الشافعي طاهر وليس بمطهر، وقال مالك والثوري يجوز الوضوء به، وقال أبو حنيفة في رواية أبي يوسف إنه نجس فههنا مسائل :
المسألة الأولى : في بيان أنه ليس بمطهر، ودليلنا
قوله عليه السلام :«لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب»
ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا لما كان للمنع منه معنى، ومن وجه القياس أن الصحابة كانوا يتوضؤون في الأسفار وما كانوا يجمعون تلك المياه مع علمهم باحتياجهم بعد ذلك إلى الماء، ولو كان ذلك الماء مطهرا لحملوه ليوم الحاجة، واحتج مالك بالآية والخبر والقياس. أما الآية فمن وجهين : الأول : قوله تعالى : وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً وقوله : وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال : ١١] فدلت الآية على حصول وصف المطهرية للماء، والأصل في الثابت بقاؤه، فوجب الحكم ببقاء هذه الصفة للماء

(١) في الكشاف (و منابع).
(٢) في الكشاف (عن سقي السماء وأعقابهم).


الصفحة التالية
Icon