مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٥٥٤
أما قوله : ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه ليكون ما يقولونه بمسمع منك ويَرْجِعُونَ من قوله تعالى : يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ [سبأ : ٣٠] ويقال دخل عليها من كوة وألقى إليها الكتاب وتوارى في الكوة.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٢٩ إلى ٣٣]
قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣)
اعلم أن قوله : قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ بمعنى أن يقال إن الهدهد ألقى إليها الكتاب فهو محذوف كأنه ثابت،
روي أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها فدخل من كوة وطرح الكتاب على نحرها وهي مستلقية،
وقيل نقرها فانتبهت فزعة.
أما قوله : كِتابٌ كَرِيمٌ ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : حسن مضمونه وما فيه وثانيها : وصفته بالكريم لأنه من عند ملك كريم وثالثها : أن الكتاب كان مختوما وقال عليه السلام :«كرم الكتاب ختمه» وكان عليه السلام «يكتب إلى العجم، فقيل له إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه خاتم فاتخذ لنفسه خاتما».
أما قوله : إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ففيه أبحاث :
البحث الأول : أنه استئناف وتبيين لما ألقي إليها كأنها لما قالت إني ألقي إلي كتاب كريم قيل لها ممن هو وما هو فقالت إنه من سليمان وإنه كيت وكيت، وقرأ عبد اللَّه إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ عطفا على إِنِّي وقرئ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بالفتح وفيه وجهان : أحدهما : أنه بدل من كتاب كأنه قيل ألقي إلي أنه من سليمان وثانيهما : أن يريد أن من سليمان ولأنه بسم اللَّه كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم اللَّه وقرأ أبي (أن من سليمان وأن بسم اللَّه) على أن المفسرة، وأن في (ألا تعلوا) مفسرة أيضا ومعنى لا تعلوا لا تتكبروا كما تفعل الملوك، وقرأ ابن عباس بالغين معجمة من الغلو وهي مجاوزة الحد.
البحث الثاني : يقال لم قدم سليمان اسمه على قوله : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ؟ جوابه : حاشاه من ذلك بل ابتدأ هو ببسم اللَّه الرحمن الرحيم، وإنما ذكرت بلقيس أن هذا الكتاب من سليمان ثم حكت ما في الكتاب واللَّه تعالى حكى ذلك فالتقديم واقع في الحكاية.
البحث الثالث : أن الأنبياء عليهم السلام لا يطيلون بل يقتصرون على المقصود، وهذا الكتاب مشتمل على تمام المقصود، وذلك لأن المطلوب من الخلق، إما العلم أو العمل والعلم مقدم على العمل فقوله : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مشتمل على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وإثبات كونه عالما قادرا حيا مريدا حكيما رحيما.
وأما قوله : أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ فهو نهي عن الانقياد لطاعة النفس والهوى والتكبر.


الصفحة التالية
Icon