مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٥٥٥
وأما قوله : وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ فالمراد من المسلم إما المنقاد أو المؤمن، فثبت أن هذا الكتاب على وجازته يحوي كل ما لا بد منه في الدين والدنيا، فإن قيل النهي عن الاستعلاء والأمر بالانقياد قبل إقامة الدلالة على كونه رسولا حقا يدل على الاكتفاء بالتقليد جوابه : معاذ اللَّه أن يكون هناك تقليد وذلك لأن رسول سليمان إلى بلقيس كان الهدهد ورسالة الهدهد معجز والمعجز يدل على وجود الصانع وعلى صفاته ويدل على صدق المدعي فلما كانت تلك الرسالة دلالة تامة على التوحيد والنبوة لا جرم لم يذكر في الكتاب دليلا آخر.
أما قوله : يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي فالفتوى هي الجواب في الحادثة اشتقت على طريق الاستعارة من الفتى في السن أي أجيبوني في الأمر الفتى، وقصدت بالانقطاع إليهم واستطلاع رأيهم تطييب قلوبهم ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً أي لا أبت أمرا إلا بمحضركم.
أما قوله : قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ فالمراد قوة الأجسام وقوة الآلات [و العدد] «١» والمراد بالبأس النجدة (و الثبات) «٢» في الحرب، وحاصل الجواب أن القوم ذكروا أمرين : أحدهما : إظهار القوة الذاتية والعرضية ليظهر أنها إن أرادتهم للدفع والحرب وجدتهم بحيث تريد، والآخر قولهم : وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ وفي ذلك إظهار الطاعة لها إن أرادت السلم، ولا يمكن ذكر جواب أحسن من هذا واللَّه أعلم.
[سورة النمل (٢٧) : الآيات ٣٤ إلى ٣٧]
قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧)
اعلم أنها لما عرضت الواقعة على أكابر قومها وقالوا ما تقدم أظهرت رأيها، وهو أن الملوك إذا دخلوا قرية بالقهر أفسدوها، أي خربوها وأذلوا أعزتها، فذكرت لهم عاقبة الحرب.
وأما قوله : وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ فقد اختلفوا أهو من كلامها أو من كلام اللَّه تعالى كالتصويب لها والأقرب أنه من كلامها، وأنها ذكرته تأكيدا لما وصفته من حال الملوك. فأما الكلام في صفة الهداية فالناس أكثروا فيها لكن لا ذكر لها في الكتاب وقولها : فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ فيه دلالة على أنها لم تثق بالقبول وجوزت الرد، وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان، ولما وصلت الهدايا إلى سليمان عليه السلام ذكر أمرين :
الأول : قوله : أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فأظهر بهذا الكلام قلة الاكتراث بذلك المال.
أما قوله : بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ ففيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن الهدية اسم للمهدي، كما أن العطية اسم للمعطي، فتضاف إلى المهدي وإلى المهدى له، والمضاف إليه هاهنا هو المهدى إليه، والمعنى أن اللَّه تعالى آتاني الدين الذي هو السعادة القصوى، وآتاني من الدنيا ما لا مزيد عليه، فكيف يستمال مثلي بمثل هذه الهدية، بل أنتم تفرحون بما يهدي إليكم، لكن حالي خلاف حالكم وثانيها : بل أنتم بهديتكم هذه التي
(٢) في الكشاف (و البلاء).