مفاتيح الغيب، ج ٢٤، ص : ٥٨٨
اعلم أن الناس اختلفوا في قوله : وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ فقال بعضهم إنه خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى اللَّه تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة فأوصله اللَّه تعالى إلى مدين، وهذا قول ابن عباس، وقال آخرون لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينهم وبينه قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم عليه السلام، وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل اللَّه تعالى، ومن الناس من قال بل جاءه جبريل عليه السلام، وعلمه الطريق وذكر ابن جرير عن السدي لما أخذ موسى عليه السلام في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح، فقال لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين،
واحتج من قال إنه خرج وما قصد مدين بأمرين : أحدهما : قوله : وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ ولو كان قاصدا للذهاب إلى مدين لقال، ولما توجه إلى مدين فلما لم يقل ذلك بل قال : تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ علمنا أنه لم يتوجه إلا إلى ذلك الجانب من غير أن يعلم أن ذلك الجانب إلى أين ينتهي والثاني : قوله : عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ وهذا كلام شاك لا عالم والأقرب أن يقال إنه قصد الذهاب إلى مدين وما كان عالما بالطريق. ثم إنه كان يسأل الناس عن كيفية الطريق لأنه يبعد من موسى عليه السلام في عقله وذكائه أن لا يسأل، ثم قال ابن إسحاق خرج من مصر إلى مدين بغير زاد ولا ظهر، وبينهما مسيرة ثمانية أيام ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر.
أما قوله : عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ فهو نظير قول جده إبراهيم عليه السلام : إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات : ٩٩] وموسى عليه السلام قلما يذكر كلاما في الاستدلال والجواب والدعاء والتضرع إلا ما ذكره إبراهيم عليه السلام، وهكذا الخلف الصدق للسلف الصالح صلوات اللَّه عليهم وعلى جميع الطيبين المطهرين وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وهو الماء الذي يسقون منه وكان بئرا فيما روي ووروده مجيئه والوصول إليه وَجَدَ عَلَيْهِ أي فوق شفيره ومستقاه أُمَّةً جماعة كثيرة العدد مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ والذود الدفع والطرد فقوله (تذودان) أي تحبسان ثم فيه أقوال : الأول : تحبسان أغنامهما واختلفوا في علة ذلك الحبس على وجوه : أحدها : قال الزجاج لأن على الماء من كان أقوى منهما فلا يتمكنان من السقي وثانيها : كانتا تكرهان المزاحمة على الماء وثالثها :
لئلا تختلط أغنامهما بأغنامهم ورابعها : لئلا تختلطا بالرجال القول الثاني : كانتا تذودان عن وجوههما نظرا الناظر ليراهما والقول الثالث : تذودان الناس عن غنمهما القول الرابع : قال الفراء تحبسانها عن أن تتفرق وتتسرب قالَ ما خَطْبُكُما أي ما شأنكما وحقيقته ما مخطوبكما أي مطلوبكما من الذياد فسمى المخطوب خطبا كما يسمى المشئون شأنا في قولك ما شأنك فقالتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ وذلك


الصفحة التالية
Icon