مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ١١٩
أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ فإن أن في مثل هذا تسمى المفسرة ففسر اللّه إيتاء الحكمة بقوله : أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وهو كذلك، لأن من جملة ما يقال إن العمل موافق للعلم، لأن الإنسان إذا علم أمرين أحدهما أهم من الآخر، فإن اشتغل بالأهم كان عمله موافقا لعلمه وكان حكمة، وإن أهمل الأهم كان مخالفا للعلم ولم يكن من الحكمة في شيء، لكن شكر اللّه أهم الأشياء فالحكمة أول ما تقتضي، ثم إن اللّه تعالى بين أن بالشكر لا ينتفع إلا الشاكر بقوله :
وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وبين أن بالكفران لا يتضرر غير الكافر بقوله : وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أي اللّه غير محتاج إلى شكر حتى يتضرر بكفران الكافر وهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أو لم يشكروه، وفي الآية مسائل ولطائف الأولى : فسر اللّه إيتاء الحكمة بالأمر بالشكر، لكن الكافر والجاهل مأموران بالشكر فينبغي أن يكون قد أوتي الحكمة والجواب : أن قوله تعالى : أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ أمر تكوين معناه آتيناه الحكمة بأن جعلناه من الشاكرين، وفي الكافر الأمر بالشكر أمر تكليف.
المسألة الثانية : قال في الشكر وَمَنْ يَشْكُرْ بصيغة المستقبل، وفي الكفران : وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ، وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد، كقول القائل : من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر، فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران، ولأن الشكر من الشاكر لا يقع بكماله، بل أبدا يكون منه شيء في العدم يريد الشاكر إدخاله في الوجود، كما قال : رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ [النمل : ١٩] وكما قال تعالى : وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [النمل : ١٨] فأشار إليه بصيغة المستقبل تنبيها على أن الشكر بكماله لم يوجد وأما الكفران فكل جزء يقع منه تام، فقال بصيغة الماضي.
المسألة الثالثة : قال تعالى هنا : وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ بتقديم الشكر على الكفران، وقال في سورة الروم : مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [الروم : ٤٤] فنقول هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم : ٤٣] وهاهنا الذكر للترغيب، لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد، وقوله : وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً يحقق ما ذكرنا أولا، لأن المذكور في سورة الروم لما كان بعد اليوم الذي لا مرد له تكون الأعمال قد سبقت فقال بلفظ الماضي وَمَنْ عَمِلَ وهاهنا لما كان المذكور في الابتداء قال وَمَنْ يَشْكُرْ بلفظ المستقبل وقوله : وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عن حمد الحامدين، حميد في ذاته من غير حمدهم، وإنما الحامد ترتفع مرتبته بكونه حامدا للّه تعالى. ثم قال تعالى :
[سورة لقمان (٣١) : آية ١٣]
وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (١٣)
عطف على معنى ما سبق وتقديره آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرا في نفسه وحين جعلناه واعظا لغيره وهذا لأن علو مرتبة الإنسان بأن يكون كاملا في نفسه ومكملا لغيره فقوله : أَنِ اشْكُرْ إشارة إلى الكمال وقوله : وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ إشارة إلى التكميل، وفي هذا لطيفة وهي أن اللّه ذكر لقمان وشكر سعيه حيث أرشد ابنه ليعلم منه فضيلة النبي عليه السلام الذي أرشد الأجانب والأقارب فإن إرشاد الولد أمر معتاد، وأما تحمل المشقة في تعليم الأباعد فلا، ثم إنه في الوعظ بدأ بالأهم وهو المنع من الإشراك وقال : إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ أما أنه ظلم فلأنه وضع للنفس الشريف المكرم بقوله تعالى : وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ


الصفحة التالية
Icon