مفاتيح الغيب، ج ٢٥، ص : ٢٤
ثبت هذا فنقول ذلك المقدم على المقصود قد يكون كلاما له معنى مفعوم، كقول القائل اسمع، واجعل بالك إلي، وكن لي، وقد يكون شيئا هو في معنى الكلام المفهوم كقول القائل أزيد ويا زيد وألا يا زيد، وقد يكون ذلك المقدم على المقصود صوتا غير مفهوم كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه، وقد يكون ذلك الصوت بغير الفم كما يصفق الإنسان بيديه ليقبل السامع عليه. ثم إن موقع الغفلة كلما كان أتم والكلام المقصود كان أهم، كان المقدم على المقصود أكثر. ولهذا ينادي القريب بالهمزة فيقال أزيد والبعيد بيا فيقال يا زيد، والغافل ينبه أولا فيقال ألا يا زيد. إذا ثبت هذا فنقول إن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وإن كان يقظان الجنان لكنه إنسان يشغله شأن عن شأن فكان يحسن من الحكيم أن يقدم على الكلام المقصود حروفا هي كالمنبهات، ثم إن تلك الحروف إذا لم تكن بحيث يفهم معناها تكون أتم في إفادة المقصود الذي هو التنبيه من تقديم الحروف التي لها معنى، لأن تقديم الحروف إذا كان لإقبال السامع على المتكلم لسماع ما بعد ذلك فإذا كان ذلك المقدم كلاما منظوما وقولا مفهوما فإذا سمعه السامع ربما يظن أنه كل المقصود ولا كلام له بعد ذلك فيقطع الالتفات عنه.
أما إذا سمع منه صوتا بلا معنى يقبل عليه ولا يقطع نظره عنه ما لم يسمع غيره لجزمه بأن ما سمعه ليس هو المقصود، فإذن تقديم الحروف التي لا معنى لها في الوضع على الكلام المقصود فيه حكمة بالغة، فإن قال قائل فما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟ فنقول عقل البشر عن إدراك الأشياء الجزئية على تفاصيلها عاجز واللّه أعلم بجميع الأشياء، لكن نذكر ما يوفقنا اللّه له فنقول كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن كقوله تعالى : الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة : ١، ٢] الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمران : ١- ٣] المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف : ١، ٢]، يس وَالْقُرْآنِ [يس : ١، ٢]، ص وَالْقُرْآنِ [ص : ١] ق وَالْقُرْآنِ [ق : ١]، الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ [السجدة : ١، ٢]، حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ [الجاثية : ١، ٢] إلا ثلاث سور كهيعص [مريم : ١]، الم أَحَسِبَ النَّاسُ، الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم : ١، ٢] والحكمة في افتتاح السور التي فيها القرآن أو التنزيل أو الكتاب بالحروف هي أن القرآن عظيم والإنزال له ثقل والكتاب له عبء كما قال تعالى : إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل : ٥] وكل سورة في أولها ذكر القرآن والكتاب والتنزيل قدم عليها منبه يوجب ثبات المخاطب لاستماعه، لا يقال كل سورة قرآن واستماعه استماع القرآن سواء كان فيها ذكر القرآن لفظا أو لم يكن، فكان الواجب أن يكون في أوائل كل سورة منبه، وأيضا فقد وردت / سور فيها ذكر الإنزال والكتاب ولم يذكر قبلها حروف كقوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ [الكهف : ١] وقوله :
سُورَةٌ أَنْزَلْناها [النور : ١] وقوله : تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ [الفرقان : ١] وقوله : إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر : ١] لأنا نقول جوابا عن الأول لا ريب في أن كل سورة من القرآن لكن السورة التي فيها ذكر القرآن والكتاب مع أنها من القرآن تنبه على كل القرآن فإن قوله تعالى : طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ [طه :
١، ٢] مع أنها بعض القرآن فيها ذكر جميع القرآن فيصير مثاله مثال كتاب يرد من ملك على مملوكه فيه شغل ما، وكتاب آخر يرد منه عليه فيه : إنا كتبنا إليك كتبا فيها أوامرنا فامتثلها، لا شك أن عبء الكتاب الآخر أكثر من ثقل الأول وعن الثاني أن قوله : الْحَمْدُ لِلَّهِ، وتَبارَكَ الَّذِي تسبيحات مقصودة وتسبيح اللّه لا يغفل عنه العبد فلا يحتاج إلى منبه بخلاف الأوامر والنواهي، وأما ذكر الكتاب فيها فلبيان وصف عظمة من له التسبيح وسُورَةٌ أَنْزَلْناها قد بينا أنها من القرآن فيها ذكر إنزالها وفي السورة التي ذكرناها ذكر جميع القرآن