مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٣٥
وهذا استدلال بدليل آخر على وحدانية اللّه وقدرته وفي تفسيرها مسائل :
المسألة الأولى : ذكر هذا الدليل على طريقة الاستخبار، وقال : أَلَمْ تَرَ وذكر الدليل المتقدم على طريقة الإخبار وقال : وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ [فاطر : ٩] وفيه وجهان الأول : أن إنزال الماء أقرب إلى النفع والمنفعة فيه أظهر فإنه لا يخفى على أحد في الرؤية أن الماء منه حياة الأرض فعظم دلالته بالاستفهام لأن الاستفهام الذي للتقرير لا يقال إلا في الشيء الظاهر جدا كما أن من أبصر الهلال وهو خفي جدا، فقال له غيره أين هو، فإنه يقول له في الموضع الفلاني، فإن لم يره، يقول له الحق معك إنه خفي وأنت معذور، وإذا كان بارزا يقول له أما تراه هذا هو ظاهر والثاني : وهو أنه ذكره بعد ما قرر المسألة بدليل آخر وظهر بما تقدم للمدعو بصارة بوجوه الدلالات، فقال له أنت صرت بصيرا بما ذكرناه ولم يبق لك عذر، ألا ترى هذه الآية.
المسألة الثانية : المخاطب من هو يحتمل وجهين أحدهما : النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وفيه حكمة وهي أن اللّه تعالى لما ذكر الدلائل ولم تنفعهم قطع الكلام معهم والتفت إلى غيرهم، كما أن السيد إذا نصح بعض العبيد ومنعهم من الفساد ولا ينفعهم الإرشاد، يقول لغيره اسمع ولا تكن مثل هذا / ويكرر معه ما ذكره مع الأول ويكون فيه إشعار بأن الأول فيه نقيصة لا يستأهل للخطاب فيتنبه له ويدفع عن نفسه تلك النقيصة والآخر : أن لا يخرج إلى كلام أجنبي عن الأول، بل يأتي بما يقاربه لئلا يسمع الأول كلاما آخر فيترك التفكر فيما كان فيه من النصيحة.
المسألة الثالثة : هذا استدلال على قدرة اللّه واختياره حيث أخرج من الماء الواحد ثمرات مختلفة وفيه لطائف الأولى : قال أنزل وقال أخرجنا. وقد ذكرنا فائدته ونعيدها فنقول : قال اللّه تعالى : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فإن كان جاهلا يقول نزول الماء بالطبع لثقله فيقال له، فالإخراج لا يمكنك أن تقول فيه إنه بالطبع فهو بإرادة اللّه، فلما كان ذلك أظهر أسنده إلى المتكلم ووجه آخر : هو أن اللّه تعالى لما قال : أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ علم اللّه بدليل، وقرب المتفكر فيه إلى اللّه تعالى فصار من الحاضرين، فقال له أخرجنا لقربه ووجه ثالث :
الإخراج أتم نعمة من الإنزال، لأن الإنزال لفائدة الإخراج فأسند الأتم إلى نفسه بصيغة المتكلم وما دونه بصيغة الغائب.
اللطيفة الثانية : قال تعالى : وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ.
كأن قائلا قال اختلاف الثمرات لاختلاف البقاع. ألا ترى أن بعض النباتات لا تنبت ببعض البلاد كالزعفران وغيره، فقال تعالى اختلاف البقاع ليس إلا بإرادة اللّه وإلا فلم صار بعض الجبال فيه مواضع حمر ومواضع بيض، والجدد جمع جدة وهي الخطة أو الطريقة، فإن قيل الواو في : وَمِنَ الْجِبالِ ما تقديرها؟
نقول هي تحتمل وجهين أحدهما : أن تكون للاستئناف كأنه قال تعالى وأخرجنا بالماء ثمرات مختلفة الألوان، وفي الأشياء الكائنات من الجبال جدد بيض دالة على القدرة، رادة على من ينكر الإرادة في اختلاف ألوان الثمار ثانيهما : أن تكون للعطف تقديرها وخلق من الجبال. قال الزمخشري : أراد ذو جدد واللطيفة الثالثة : ذكر الجبال ولم يذكر الأرض كما قال في موضع آخر : وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ [الرعد : ٤] مع أن هذا الدليل مثل ذلك، وذلك لأن اللّه تعالى لما ذكر في الأول : فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ كان نفس إخراج الثمار دليلا على القدرة ثم زاد عليه بيانا، وقال مختلفا كذلك في الجبال في نفسها دليل للقدرة والإرادة، لأن كون الجبال


الصفحة التالية
Icon