مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٥٥
الغل إلى ذقنه وبقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر الطريق الذي عند قدمه وذكر بعده أن بين يديه سدا ومن خلفه سدا فهو لا يقدر على انتهاج السبيل ورؤيته وقد ذكر من قبل أن المرسل على صراط مستقيم فهذا الذي يهديه النبي إلى الصراط المستقيم العقلي جعل ممنوعا كالمغلول الذي يجعل ممنوعا من إبصار الطريق الحسي، ويحتمل وجها آخر وهو أن يقال الأغلال في الأعناق / عبارة عن عدم الانقياد فإن المنقاد يقال فيه إنه وضع رأسه على الخط وخضع عنقه والذي في رقبته الغل الثخين إلى الذقن لا يطأطئ رأسه ولا يحركه تحريك المصدق، ويصدق هذا قوله : مُقْمَحُونَ فإن المقمح هو الرافع رأسه كالمتأبى يقال بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ولم يطأطئه للشرب والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة وكأنه تعالى قال إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهم مقمحون لا يخضعون الرقاب لأمر اللّه. وعلى هذا فقوله تعالى :
[سورة يس (٣٦) : آية ٩]
وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩)
يكون متمما لمعنى جعل اللّه إياهم مغلولين لأن قوله : وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فكأنه قال لا يبصرون الحق فينقادون له لمكان السد ولا ينقادون لك فيبصرون الحق فينقادون له لمكان الغل والإيمان المورث للإيقان. إما باتباع الرسول أولا فتلوح له الحقائق ثانيا وإما بظهور الأمور أولا واتباع الرسول ثانيا، ولا يتبعون الرسول أولا لأنهم مغلولون فلا يظهر لهم الحق من الرسول ثانيا، ولا يظهر لهم الحق أولا لأنهم واقعون في السد فلا يتبعون الرسول ثانيا وفيه وجه آخر : وهو أن يقال المانع، إما أن يكون في النفس، وإما أن يكون خارجا عنها، ولهم المانعان جميعا من الإيمان، أما في النفس فالغل، وأما من الخارج فالسد، ولا يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت : ٥٣] وذلك لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع بصره على يديه، ولا يقع نظرهم على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تبين لهم الآيات التي في الآفاق وعلى هذا فقوله :
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ [يس : ٨] وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات اللّه في الأنفس والآفاق، وفي تفسير قوله تعالى : وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا مسائل :
المسألة الأولى : السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة ومن بين أيديهم سدا فلا يقدرون على السلوك، وأما السد من خلفهم، فما الفائدة فيه؟
فنقول الجواب عنه من وجوه الأول : هو أن الإنسان له هداية فطرية والكافر قد يتركها وهداية نظرية والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول : جعلنا من بين أيديهم سدا فلا يسلكون طريقة الاهتداء التي هي نظرية وجعلنا من خلفهم سدا فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية الثاني : هو أن الإنسان مبدأه من اللّه ومصيره إليه فعمى الكافر لا يبصر ما بين يديه من / المصير إلى اللّه ولا ما خلفه من الدخول في الوجود بخلق اللّه الثالث : هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله : وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ إشارة إلى إهلاكهم.
المسألة الثانية : قوله تعالى : فَأَغْشَيْناهُمْ بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق ويكون


الصفحة التالية
Icon