مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٧٠
الفاعل وهو قليل، والوجه فيه ما ذكرنا، أن ذكر المتحسر غير مقصود وإنما المقصود أن الحسرة متحققة في ذلك الوقت الثاني : أن قائل يا حسرة هو اللّه على الاستعارة تعظيما للأمر وتهويلا له وحينئذ يكون كالألفاظ التي وردت في حق اللّه كالضحك والنسيان والسخر والتعجب والتمني، أو نقول ليس معنى قولنا يا حسرة ويا ندامة، أن القائل متحسر أو نادم بل المعنى أنه مخبر عن وقوع الندامة ولا يحتاج إلى تجوز في بيان كونه تعالى قال :
يا حَسْرَةً بل يخبر به على حقيقته إلا في النداء، فإن النداء مجاز والمراد الإخبار الثالث : المتلهفون من المسلمين والملائكة ألا ترى إلى ما حكي عن حبيب أنه حين القتل كان يقول : اللهم اهد قومي وبعد ما قتلوه وأدخل الجنة قال : يا ليت قومي يعلمون، فيجوز أن يتحسر المسلم للكافر ويتندم له وعليه.
المسألة الثالثة : قرئ يا حَسْرَةً بالتنوين، و(يا حسرة العباد) بالإضافة من غير كلمة على، وقرئ يا حسرة علي بالهاء أجراء للوصل مجرى الوقف.
المسألة الرابعة : من المراد بالعباد؟ نقول فيه وجوه أحدها : الرسل الثلاثة كأن الكافرين يقولون عند ظهور البأس يا حسرة عليهم يا ليتهم كانوا حاضرين شأننا لنؤمن بهم وثانيها : هم قوم حبيب وثالثها : كل من كفر وأصر واستكبر وعلى الأول فإطلاق العباد على المؤمنين كما في قوله : إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر : ٤٢] وقوله : يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا [الزمر : ٥٣] وعلى الثاني فإطلاق العباد على الكفار، وفرق بين العبد مطلقا وبين المضاف إلى اللّه تعالى فإن الإضافة إلى الشريف تكسو المضاف شرفا تقول بيت اللّه فيكون فيه من الشرف ما لا يكون في قولك البيت، وعلى هذا فقوله تعالى : وَعِبادُ الرَّحْمنِ [الفرقان : ٦٣] من قبيل قوله : إِنَّ عِبادِي [الحجر : ٤٢] وكذلك عِبادَ اللَّهِ [الصافات : ٧٤].
ثم بين اللّه تعالى سبب الحسرة بقوله تعالى : ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهذا سبب الندامة وذلك لأن من جاءه ملك من بادية، وأعرفه نفسه، وطلب منه أمرا هينا فكذبه ولم يجبه إلا ما دعاه، ثم وقف بين يديه وهو على سرير ملكه فعرفه أنه ذلك، يكون عنده من الندامة ما لا مزيد عليه، فكذلك الرسل هم ملوك وأعظم منهم بإعزاز اللّه إياهم وجعلهم نوابه كما قال : إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران : ٣١] وجاءوا وعرفوا أنفسهم ولم يكن لهم عظمة ظاهرة في الحس، ثم يوم القيامة أو عند ظهور البأس ظهرت عظمتهم عند اللّه لهم، وكان ما يدعون إليه أمرا هينا نفعه عائد إليهم من عبادة اللّه وما كانوا يسألون عليه أجرا، فعند ذلك تكون الندامة الشديدة، وكيف لا وهم لم يقتنعوا بالإعراض حتى آذوا واستهزءوا واستخفوا واستهانوا / وقوله : ما يَأْتِيهِمْ الضمير يجوز أن يكون عائدا إلى قوم حبيب، أي ما يأتيهم من رسول من الرسل الثلاثة إلا كانوا به يستهزءون على قولنا الحسرة عليهم، ويجوز أن يكون عائدا إلى الكفار المصرين.
[سورة يس (٣٦) : آية ٣١]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١)
ثم إن اللّه تعالى لما بين حال الأولين قال للحاضرين : أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي الباقون لا يرون ما جرى على من تقدمهم، ويحتمل أن يقال : إن الذين قيل في حقهم : يا حَسْرَةً [يس : ٣٠] هم الذين قال في حقهم : أَلَمْ يَرَوْا ومعناه أن كل مهلك تقدمه قوم كذبوا وأهلكوا إلى قوم نوح وقبله.


الصفحة التالية
Icon