مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٨٦
وقوله تعالى : فَلا صَرِيخَ لَهُمْ أي لا مغيث لهم يمنع عنهم الغرق.
وقوله تعالى : وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ إذا أدركهم الغرق وذلك لأن الخلاص من العذاب، إما أن يكون بدفع العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال : لا صريخ لهم يدفع ولا هم ينقذون بعد الوقوع فيه، وهذا مثل قوله تعالى : لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ فقوله : فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ فيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال لا صريخ لهم ولم يقل ولا منقذ لهم وذلك لأن من لا يكون من شأنه أن ينصر لا يشرع في النصرة مخافة أن يغلب ويذهب ماء وجهه، وإنما ينصر ويغيث من يكون من شأنه أن يغيث فقال لا صريخ لهم، وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا رأى من يعز عليه في ضر يشرع في الإنقاذ، وإن لم يثق بنفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه. وإنما يبذل المجهود فقال : وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ ولم يقل ولا منقذ لهم.
ثم استثنى فقال :
[سورة يس (٣٦) : آية ٤٤]
إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤)
وهو يفيد أمرين أحدهما : انقسام الإنقاذ إلى قسمين الرحمة والمتاع، أي فيمن علم اللّه منه أنه يؤمن فينقذه اللّه رحمة، وفيمن علم أنه لا يؤمن فليتمتع زمانا ويزداد إثما وثانيهما : أنه بيان لكون الإنقاذ غير مفيد للدوام بل الزوال في الدنيا لا بد منه فينقذه اللّه رحمة ويمتعه إلى حين، ثم يميته فالزوال لازم أن يقع. ثم قال تعالى :
[سورة يس (٣٦) : آية ٤٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥)
وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن اللّه تعالى لما عدد الآيات بقوله : وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ... وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ... وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ [يس : ٣٣، ٣٧، ٤١] وكانت الآيات تفيد اليقين وتوجب القطع بما قال تعالى ولم تفدهم اليقين، قال فلا أقل من أن يحترزوا عن العذاب فإن من أخبر بوقوع عذاب يتقيه، وإن لم يقطع بصدق قول المخبر احتياطا فقال تعالى إذا ذكر لهم الدليل القاطع لا يعترفون به وإذا قيل لهم اتقوا لا يتقون فهم في غاية الجهل ونهاية الغفلة، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان، ولا مثل العامة الذين يبنون الأمر على الأحوط، ويدل على ما ذكرنا قوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بحرف التمني أي في ظنكم فإن من يخفى عليه وجه البرهان لا يترك طريقة الاحتراز والاحتياط، وجواب قوله : إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا محذوف معناه وإذا قيل لهم ذلك لا يتقون أو يعرضون، وإنما حذف لدلالة ما بعده عليه وهو قوله تعالى : وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ [الأنعام : ٤] وفي قوله تعالى : ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ / وجوه أحدها : ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ الآخرة فإنهم مستقبلون لها وَما خَلْفَكُمْ الدنيا فإنهم تاركون لها وثانيها : ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ من أنواع العذاب مثل الغرق والحرق، وغيرهما المدلول عليه بقوله تعالى : وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ [يس : ٤٣] وما خلفكم من الموت الطالب لكم إن نجوتم من هذه الأشياء فلا نجاة لكم منه يدل عليه قوله تعالى : وَمَتاعاً إِلى حِينٍ [يس : ٤٤] وثالثها : ما بين أيديكم من أمر محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم فإنه حاضر عندكم وما خلفكم من أمر الحشر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم والتكذيب بالحشر رحمكم اللّه وقوله تعالى : لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ مع أن
الرحمة واجبة، فيه وجوه ذكرناها مرارا ونزيد هاهنا وجها آخر وهو أنه تعالى لما قال : اتَّقُوا بمعنى أنكم إن لم تقطعوا بناء على البراهين فاتقوا احتياطا قال : لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ يعني أرباب اليقين يرحمون


الصفحة التالية
Icon