مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٨٧
جزما وأرباب الاحتياط يرجى أن يرحموا، والحق ما ذكرنا من وجهين أحدهما : اتقوا راجين الرحمة فإن اللّه لا يجب عليه شيء وثانيهما : هو أن الاتقاء نظرا إليه أمر يفيد الظن بالرحمة فإن كان يقطع به أحد لأمر من خارج فذلك لا يمنع الرجاء فإن الملك إذا كان في قلبه أن يعطي من يخدمه أكثر من أجرته أضعافا مضاعفة لكن الخدمة لا تقتضي ذلك، يصح منه أن يقول افعل كذا ولا يبعد أن يصل إليك أجرتك أكثر مما تستحق. ثم قال تعالى :
[سورة يس (٣٦) : آية ٤٦]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦)
وهذا متعلق بما تقدم من قوله تعالى : يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [يس : ٣٠]، وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها وما التفتوا إليها وقوله : أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ إلى قوله : لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [يس : ٣١- ٤٥] كلام بين كلامين متصلين ويحتمل أن يقال هو متصل بما قبله من الآية وبيانه هو أنه تعالى لما قال : وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا [يس : ٤٥] وكان فيه تقدير أعرضوا قال ليس إعراضهم مقتصرا على ذلك بل هم عن كل آية معرضون أو يقال إذا قيل لهم اتقوا اقترحوا آيات مثل إنزال الملك وغيره فقال : وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ وعلى هذا كانوا في المعنى يكون زائدا معناه إلا يعرضون عنها أي لا تنفعهم الآيات ومن كذب بالبعض هان عليه التكذيب بالكل. وقوله تعالى :
[سورة يس (٣٦) : آية ٤٧]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧)
إشارة إلى أنهم يبخلون بجميع ما على المكلف، وذلك لأن المكلف عليه التعظيم لجانب اللّه والشفقة على خلق اللّه وهم تركوا التعظيم حيث قيل لهم اتَّقُوا فلم يتقوا وتركوا الشفقة على خلق اللّه حيث قيل لهم :
أَنْفِقُوا فلم ينفقوا وفيه لطائف الأولى خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والشفقة فلم يأتوا بشيء منه وعباد اللّه المخلصون خوطبوا بالأدنى فأتوا بالأعلى إنما قلنا ذلك لأنهم في التقوى أمروا بأن يتقوا ما بين أيديهم من العذاب أو الآخرة وما خلفهم من الموت أو العذاب وهو أدنى ما يكون من الاتقاء، وأما الخاص فيتقي تغيير قلب الملك عليه وإن لم يعاقبه ومتقى العذاب لا يكون إلا للبعيد، فهم لم يتقوا معصية اللّه ولم يتقوا عذاب اللّه، والمخلصون اتقوا اللّه واجتنبوا مخالفته سواء كان يعاقبهم عليه أو لا يعاقبهم، وأما في الشفقة فقيل لهم :
أَنْفِقُوا مِمَّا أي بعض ما هو للّه ما في أيديكم فلم ينفقوا، والمخلصون آثروا على أنفسهم وبذلوا كل ما في أيديهم، بل أنفسهم صرفوها إلى نفع عباد اللّه ودفع الضرر عنهم الثانية : كما أن في جانب التعظيم ما كان فائدة التعظيم راجعة إلا إليهم فإن اللّه مستغن عن تعظيمهم كذلك في جانب الشفقة ما كان فائدة الشفقة راجعة إلا إليهم، فإن من لا يرزقه المتمول لا يموت إلا بأجله ولا بد من وصول رزقه إليه، لكن السعيد من قدر اللّه إيصال الرزق على يده إلى غيره الثالثة : قوله : مِمَّا رَزَقَكُمُ إشارة إلى أمرين أحدهما : أن البخل به في غاية القبح فإن أبخل البخلاء من يبخل بمال الغير وثانيهما : أنه لا ينبغي أن يمنعكم من ذلك مخافة الفقر فإن اللّه رزقكم فإذا أنفقتم فهو يخلفه لكم ثانيا كما رزقكم أولا وفيه مسائل أيضا :
المسألة الأولى : عند قوله تعالى : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا حذف الجواب، وهاهنا أجاب وأتى بأكثر من


الصفحة التالية
Icon