مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٢٨٨
الجواب وذلك لأنه تعالى لو قال : وإذا قيل لهم أنفقوا قالوا : أنطعم من لو يشاء اللّه أطعمه لكان كافيا، فما الفائدة في قوله تعالى : قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا؟ نقول الكفار كانوا يقولون بأن الإطعام من الصفات الحميدة وكانوا يفتخرون به، وإنما أرادوا بذلك القول ردا على المؤمنين فقالوا نحن نطعم الضيوف معتقدين بأن أفعالنا ثناء، ولولا إطعامنا لما اندفع حاجة الضيف وأنتم تقولون إن إلهكم يرزق من يشاء، فلم تقولون لنا أنفقوا؟ فلما كان غرضهم الرد على المؤمنين لا الامتناع من الإطعام. قال تعالى عنهم : قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا إشارة إلى الرد، وأما في قولهم : اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ [يس : ٤٥] فلم يكن لهم رد على المؤمنين فأعرضوا وأعرض اللّه عن ذكر إعراضهم لحصول العلم به.
المسألة الثانية : ما الفائدة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا أننفق على من لو يشاء اللّه رزقه، وذلك لأنهم أمروا بالإنفاق في قوله : وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا فكان جوابهم بأن / يقولوا أننفق فلم قالوا :
أَنُطْعِمُ؟ نقول فيه بيان غاية مخالفتهم وذلك لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره لم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام وقالوا لا نطعم، وهذا كما يقول القائل لغيره أعط زيدا دينارا يقول لا أعطيه درهما مع أن المطابق هو أن يقول لا أعطيه دينارا ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك هاهنا.
المسألة الثالثة : كان كلامهم حقا فإن اللّه لو شاء أطعمه فلما ذا ذكره في معرض الذم؟ نقول لأن مرادهم كان الإنكار لقدرة اللّه أو لعدم جواز الأمر بالإنفاق مع قدرة اللّه وكلاهما فاسد بين اللّه ذلك في قوله : مِمَّا رَزَقَكُمُ فإنه يدل على قدرته ويصحح أمره بالإعطاء لأن من كان له في يد الغير مال وله في خزائنه مال فهو مخير إن أراد أعطى مما في خزائنه وإن أراد أمر من عنده المال بالإعطاء ولا يجوز أن يقول من بيده ماله في خزائنك أكثر مما في يدي أعطه منه، وقوله : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إشارة إلى اعتقادهم أنهم قطعوا المؤمنين بهذا الكلام وأن أمرهم بالإنفاق مع قولهم بقدرة اللّه ظاهر الفساد واعتقادهم هو الفاسد وفيه مباحث لغوية ومعنوية.
أما اللغوية : فنقول :(إن) وردت للنفي بمعنى ما، وكان الأرض في إن أن تكون للشرط والأصل في ما أن تكون للنفي لكنهما اشتركا من بعض الوجوه فتقارضا واستعمل ما في الشرط واستعمل إن في النفي، أما الوجه المشترك فهو أن كل واحد منهما حرف مركب من حرفين متقاربين فإن الهمزة تقرب من الألف والميم من النون ولا بد من أن يكون المعنى الذي يدخل عليه ما وأن لا يكون ثابتا، أما في ما فظاهر، وأما في إن فلأنك إذا قلت إن جاءني زيد أكرمه ينبغي أن لا يكون له في الحال مجيء فاستعمل إن مكان ما، وقيل إن زيد قائم أي ما زيد بقائم واستعمل ما في الشرط تقول ما تصنع أصنع، والذي يدل على ما ذكرنا أن ما النافية تستعمل حيث لا تستعمل إن وذلك لأنك تقول ما إن جلس زيد فتجعل إن صلة ولا تقول إن جلس زيد بمعنى النفي وبمعنى الشرط تقول إما ترين فتجعل إن أصلا وما صلة، فدلنا هذا على أن إن في الشرط أصل وما دخيل وما في النفي بالعكس.
البحث الثاني : قد ذكرنا أن قوله : إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا يفيد ما لا يفيد قوله : أنتم في ضلال لأنه يوجب الحصر وأنه ليسوا في غير الضلال.


الصفحة التالية
Icon