مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٠١
وكل ما عداه فهو فان، وأما التجارة فلأن التاجر لا يقصد إلا إلى موضع يسمع أو يعلم أن لمتاعه هناك رواجا واللّه تعالى يقول إن العمل الصالح / عنده مثاب عليه مقابل بأضعاف ما يستحق، واللّه هو المقصد، وعبادته توجه إليه، ولا شك أن القاصد لجهة إذا توجه إليها يكون على الطريق المستقيم.
المسألة الثالثة : العبادة تنبئ عن معنى التذلل، فلما قال لا تعبدوا الشيطان لزم أن يتكبر الإنسان على ما سوى اللّه ولما قال : وَأَنِ اعْبُدُونِي ينبغي أن لا يتكبر على اللّه لكن التكبر على ما سوى اللّه ليس معناه أنه يرى نفسه خيرا من غيره، فإن نفسه من جملة ما سوى اللّه، فينبغي أن لا يلتفت إليها ولو كانت متجملة بعبادة اللّه، بل معنى التكبر على ما سوى اللّه أن لا ينقاد لشيء إلا بإذن اللّه وفي هذا التكبر غاية التواضع فإنه حينئذ لا ينقاد إلى نفسه وحظ نفسه في التفوق على غيره فلا يتفوق فيحصل التواضع التام ولا ينقاد لأمر الملوك إذا خالفوا أمر اللّه فيحصل التكبر التام فيرى نفسه بهذا التكبر دون الفقير وفوق الأمير.
[سورة يس (٣٦) : آية ٦٢]
وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (٦٢)
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الجبل ست لغات كسر الجيم والباء مع تشديد اللام وضمهما مع التشديد وكسرهما مع التخفيف وضمهما معه وتسكين الباء وتخفيف اللام مع ضم الجيم ومع كسره.
المسألة الثانية : في معنى الجبل الجيم والباء واللام لا تخلو عن معنى الاجتماع والجبل فيه اجتماع الأجسام الكثيرة، وجبل الطين فيه اجتماع أجزاء الماء والتراب، وشاة لجباء إذا كانت مجتمعة اللبن الكثير، لا يقال البلجة نقض على ما ذكرتم فإنها تنبئ عن التفرق فإن الأبلج خلاف المقرون لأنا نقول هي لاجتماع الأماكن الخالية التي تسع المتمكنات، فإن البلجة والبلدة بمعنى والبلد سمي بلدا للاجتماع لا للتفرق، فالجبل الجمع العظيم حتى قيل إن دون العشرة آلاف لا يكون جبلا وإن لم يكن صحيحا.
المسألة الثالثة : كيف الإضلال؟ نقول على وجهين : أحدهما : أن الإضلال تولية عن المقصد وصد عنه فالشيطان يأمر البعض بترك عبادة اللّه وبعبادة غيره فهو تولية فإن لم يقدر يأمره بعبادة اللّه لأمر غير اللّه من رئاسة وجاه وغيرهما فهو صد، وهو يفضي إلى التولية لأن مقصوده لو حصل لترك اللّه وأقبل على ذلك الغير فتحصل التولية.
ثم بين مآل أهل الضلال بقوله تعالى :
[سورة يس (٣٦) : آية ٦٣]
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٦٣)
وحال الضال كحال شخص خرج من وطنه مخافة عدوه فوقع في مشقة ولو أقام في وطنه لعل / ذلك العدو كان لا يظفر به أو يرحمه، كذلك حال من لم يتحرك لطاعة ولا عصيان كالمجانين وحال من استعمل عقله فأخطأ الطريق، فإن المجنون من أهل النجاة وإن لم يكن من أهل الدرجات، وقد قيل بأن البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء، وذلك ظاهر في المحسوس فإن من لم يعرف الطريق إذا أقام بمكانه لا يبعد عن الطريق كثيرا ومن سار إلى خلاف المقصد يبعد عنه كثيرا.
ثم بين أنهم واصلون إليها حاصلون فيها بقوله تعالى :


الصفحة التالية
Icon