مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣١٩
المصابيح، فوجب أن تكون تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها من غير تفاوت، والجواب أن هذه الشهب غير تلك الثواقب الباقية، وأما قوله تعالى : وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك : ٥] فنقول كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصابيح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد، ومنها ما لا يكون كذلك، وهي هذه الشهب التي يحدثها اللّه تعالى ويجعلها رجوما للشياطين، وبهذا التقدير فقد زال الإشكال، واللّه أعلم.
السؤال الثاني : كيف يجوز أن تذهب الشياطين إلى حيث يعلمون بالتجويز، أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم ألبتة، وهل يمكن أن يصدر مثل هذا الفعل عن عاقل، فكيف من الشياطين الذين لهم مزبة في معرفة الحيل الدقيقة والجواب : أن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه، وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم فيه الشهب، وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا تصيبهم الشهب، فلما هلكوا في بعض الأوقات، وسلموا في بعض الأوقات، جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنه لا تصيبهم الشهب فيها، كما يجوز فيمن يسلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة، هذا ما ذكره أبو علي الجبائي من الجواب عن هذا السؤال في تفسيره، ولقائل أن يقول : إنهم إذا صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة، أو إلى غير تلك المواضع، فإن وصلوا إلى مواضع الملائكة احترقوا، وإن وصلوا إلى غير مواضع الملائكة لم يفوزوا بمقصودهم أصلا، فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل، وإذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محال وجب أن يمتنعوا عن هذا العمل وأن لا يقدموا عليه أصلا بخلاف حال المسافرين في البحر، فإن الغالب عليهم السلامة والفوز بالمقصود، أما هاهنا فالشيطان الذي يسلم من الاحتراق إنما يسلم إذا لم يصل إلى مواضع الملائكة، وإذا لم يصل إلى تلك المواضع لم يفز بالمقصود، فوجب أن لا يعود إلى هذا العمل ألبتة، والأقرب في الجواب أن نقول هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة، فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة بين الشياطين واللّه أعلم.
السؤال الثالث : قالوا دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلا قبل مجيء النبي صلى اللّه عليه وسلّم، فإن الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي صلى اللّه عليه وسلّم بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه، وإذا ثبت أن ذلك كان موجودا قبل مجيء النبي صلى اللّه عليه وسلّم امتنع حمله على مجيء النبي صلى اللّه عليه وسلّم، أجاب القاضي بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلى اللّه عليه وسلّم لكنها كثرت في زمان النبي صلى اللّه عليه وسلّم فصارت بسبب الكثرة معجزة.
السؤال الرابع : الشيطان مخلوق من النار، قال تعالى حكاية عن إبليس خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ [الأعراف :
١٢] وقال : وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ [الحجر : ٢٧] ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السموات، وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار؟ والجواب يحتمل أن الشياطين وإن كانوا من النيران إلا أنها نيران ضعيفة، فإذا وصلت نيران الشهب إليهم، وتلك النيران أقوى حالا منهم لا جرم صار الأقوى مبطلا للأضعف، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا رجع في النار القوية فإنه ينطفئ فكذلك هاهنا.
السؤال الخامس : أن مقر الملائكة هو السطح الأعلى من الفلك، والشياطين لا يمكنهم الوصول إلا إلى


الصفحة التالية
Icon