مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٧٣
اعلم أنا ذكرنا في تفسير قوله : وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص :
٤] أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاثة أولها : تتعلق بالإلهيات، وهو قوله : أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً والثانية :
تتعلق بالنبوات، وهو قوله : أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا [ص : ٨] والثالثة : تتعلق بالمعاد، وهو قوله تعالى :
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ وذلك لأن القوم كانوا في نهاية الإنكار للقول بالحشر والنشر، فكانوا يستدلون بفساد القول بالحشر والنشر على فساد نبوته، والقط القطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطه إذا قطعه ويقال لصحيفة الجائزة قط، ولما ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وعد المؤمنين بالجنة، قالوا على سبيل الاستهزاء :
عجل لنا نصيبنا من الجنة، أو عجل لنا صحيفة أعمالنا حتى ننظر فيها.
واعلم أن الكفار لما بالغوا في السفاهة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم حيث قالوا : إنه ساحر كذاب وقالوا له على سبيل الاستهزاء عَجِّلْ لَنا قِطَّنا أمره اللّه بالصبر على سفاهتهم، فقال : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ فإن قيل. أي تعلق بين قوله : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وبين قوله : وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ؟ قلنا بيان هذا التعلق من وجوه الأول : كأنه قيل إن كنت قد شاهدت من هؤلاء الجهال جراءتهم على اللّه وإنكارهم الحشر والنشر، فاذكر قصة داود حتى تعرف شدة خوفه من اللّه تعالى ومن / يوم الحشر، فإن بقدر ما يزداد أحد الضدين شرفا يزداد الضد الآخر نقصانا والثاني : كأنه قيل لمحمد صلى اللّه عليه وسلّم لا يضيق صدرك بسبب إنكارهم لقولك ودينك، فإنهم إذا خالفوك فالأكابر من الأنبياء وافقوك والثالث : أن للناس في قصة داود قولين : منهم من قال إنها تدل على ذنبه، ومنهم من قال إنها لا تدل عليه فمن قال بالأول كان وجه المناسبة فيه كأنه قيل لمحمد صلى اللّه عليه وسلّم إن حزنك ليس إلا، لأن الكفار يكذبونك، وأما حزن داود فكان بسبب وقوعه في ذلك الذنب ولا شك أن حزنه أشد، فتأمل في قصة داود وما كان فيه من الحزن العظيم حتى يخف عليك ما أنت فيه من الحزن ومن قال بالثاني قال الخصمان اللذان دخلا على داود كانا من البشر، وإنما دخلا عليه لقصد قتله فخاف منهما داود، ومع ذلك لم يتعرض لإيذائهما ولا دعا عليهما بسوء بل استغفر لهما على ما سيجيء تقرير هذه الطريقة فلا جرم أمر اللّه تعالى محمدا عليه السلام بأن يقتدي به في حسن الخلق والخامس : أن قريشا إنما كذبوا محمدا عليه السلام واستخفوا به لقولهم في أكثر الأمر إنه يتيم فقير، ثم إنه تعالى قص على محمد كمال مملكة داود، ثم بين أنه مع ذلك ما سلم من الأحزان والغموم، ليعلم أن الخلاص عن الحزن لا سبيل إليه في الدنيا والسادس : أن قوله تعالى : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ
وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ غير مقتصر على داود فقط بل ذكر عقيب قصة داود قصص سائر الأنبياء فكأنه قال : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واعتبر بحال سائر الأنبياء ليعلمه أن كل واحد منهم كان مشغولا بهم خاص وحزن خاص، فحينئذ يعلم أن الدنيا لا تنفك عن الهموم والأحزان، وأن استحقاق الدرجات العالية عند اللّه لا يحصل إلا بتحمل المشاق والمتاعب في الدنيا، وهذه وجوه ذكرناها في هذا المقام وهاهنا وجه آخر أقوى وأحسن من كل ما تقدم، وسيجيء ذكره إن شاء اللّه تعالى عند الانتهاء إلى تفسير قوله : كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص : ٢٩] واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك حال تسعة من الأنبياء فذكر حال ثلاثة منهم على التفصيل وحال ستة آخرين على الإجمال.
فالقصة الأولى : قصة داود،
واعلم أن مجامع ما ذكره اللّه تعالى في هذه القصة ثلاثة أنواع من الكلام فالأول : تفصيل ما آتى اللّه داود من الصفات التي توجب سعادة الآخرة والدنيا والثاني : شرح تلك الواقعة التي


الصفحة التالية
Icon