مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٨٥
أنه قال : وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [الأعراف : ١٧] وسبب القلة أن الدواعي إلى الدنيا كثيرة، وهي الحواس الباطنة والظاهرة وهي عشرة والشهوة والغضب والقوى الطبيعية السبعة فالمجموع تسعة عشر واقفون على باب جهنم البدن، وكلها تدعو إلى الخلق والدنيا واللذة الحسية، وأما الداعي إلى الحق والدين فليس إلا العقل واستيلاء القوة الحسية والطبيعية على الخلق أكثر من القوة العقلية فيهم، فلهذا السبب وقعت القلة في جانب أهل الخير والكثرة في جانب أهل الشر، قال صاحب «الكشاف» وما في قوله : وَقَلِيلٌ ما هُمْ للإبهام وفيه تعجب من قلتهم، قال وإذا أردت أن تتحقق فائدتها وموقعها فاطرحها من قول امرئ القيس : وحديث ما على قصره- وانظر هل بقي له معنى قط.
ثم قال تعالى : وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ قالوا معناه وعلم داود أنما فتناه أي امتحناه، قالوا / والسبب الذي أوجب حمل لفظ الظن على العلم هاهنا أن داود عليه السلام لما قضى بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك، ثم صعد إلى السماء قبل وجهه، فعلم داود أن اللّه ابتلاه بذلك فثبت أن داود علم ذلك وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم لأن العلم الاستدلالي يشبه الظن مشابهة عظيمة، والمشابهة علة لجواز المجاز، وأقول هذا الكلام إنما يلزم إذا قلنا الخصمان كانا ملكين أما إذا لم نقل ذلك لا يلزمنا حمل الظن على العلم، بل لقائل أن يقول إنه لما غلب على ظنه حصول الابتلاء من اللّه تعالى اشتغل بالاستغفار والإنابة.
أما قوله : فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ أي سأل الغفران من ربه، ثم هاهنا وجهان إن قلنا بأنه قد صدرت زلة منه، حملنا هذا الاستغفار عليها، وإن لم نقل به قلنا فيه وجوه الأول : أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله، وإنه كان سلطانا شديد القهر عظيم القوة، ثم إنه مع أنه مع القدرة الشديدة على الانتقام ومع حصول الفزع في قلبه عفا عنهم ولم يقل لهم شيئا قرب الأمر من أن يدخل في قلبه شيء من العجب، فاستغفر ربه عن تلك الحالة وأناب إلى اللّه، واعترف بأن إقدامه على ذلك الخير ما كان إلا بتوفيق اللّه، فغفر اللّه له وتجاوز عنه بسبب طريان ذلك الخاطر الثاني : لعله هم بإيذاء القوم، ثم قال إنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم ثم استغفر عن ذلك الهم الثالث : لعل القوم تابوا إلى اللّه وطلبوا منه أن يستغفر اللّه لهم لأجل أن يقبل توبتهم فاستغفر وتضرع إلى اللّه، فغفر اللّه ذنوبهم بسبب شفاعته ودعائه، وكل هذه الوجوه محتملة ظاهرة، والقرآن مملوء من أمثال هذه الوجوه وإذا كان اللفظ محتملا لما ذكرناه ولم يقم دليل قطعي ولا ظني على التزام المنكرات التي يذكرونها، فما الذي يحملنا على التزامها والقول بها، والذي يؤكد أن الذي ذكرناه أقرب وأقوى أن يقال ختم اللّه هذه القصة بقوله : وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ ومثل هذه الخاتمة إنما تحسن في حق من صدر منه عمل كثير في الخدمة والطاعة، وتحمل أنواعا من الشدائد في الموافقة والانقياد، أما إذا كان المذكور السابق هو الإقدام على الجرم والذنب فإن مثل هذه الخاتمة لا تليق به، قال مالك بن دينار : إذا كان يوم القيامة أتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة، ويقال يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا واللّه أعلم، بقي هاهنا مباحث فالأول : قرئ فتناه وفتناه على أن الألف ضمير الملكين الثاني : المشهور أن الاستغفار إنما كان
بسبب قصة النعجة والنعاج، وقيل أيضا إنما كان بسبب أنه حكم لأحد الخصمين قبل أن سمع كلام الثاني وذلك غير جائز الثالث : قوله : خَرَّ راكِعاً وَأَنابَ يدل على حصول الركوع، وأما السجود فقد ثبت بالأخبار وكذلك البكاء الشديد في مدة أربعين يوما ثبت بالأخبار الرابع : أن


الصفحة التالية
Icon