مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٢٨
المسألة الثانية : المراد أنه تعالى يعجب العقلاء من مناقضتهم عند هاتين الحالتين، فعند الضر يعتقدون أنه لا مفزع إلى ما سواه وعند النعمة يعودون إلى اتخاذ آلهة معه. ومعلوم أنه تعالى إذا كان إنما يفزع إليه في حال الضر لأجل أنه هو القادر على الخير والشر، وهذا المعنى باق في حال الراحة والفراغ كان في تقرير حالهم في هذين الوقتين ما يوجب المناقضة وقلة العقل.
المسألة الثالثة : معنى قوله : لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ أنه لا يقتصر في ذلك على أن يضل نفسه بل يدعو غيره إما بفعله أو قوله إلى أن يشاركه في ذلك، فيزداد إثما على إثمه، واللام في قوله لِيُضِلَّ لام العاقبة كقوله :
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص : ٨] ولما ذكر اللّه تعالى عنهم هذا الفعل المتناقض هددهم فقال : قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا وليس المراد منه الأمر بل / الزجر، وأن يعرفه قلة تمتعه في الدنيا، ثم يكون مصيره إلى النار.
ولما شرح اللّه تعالى صفات المشركين والضالين، ثم تمسكهم بغير اللّه تعالى أردفه بشرح أحوال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا إلى اللّه ولا اعتماد لهم إلا على فضل اللّه، فقال : أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ نافع وابن كثير وحمزة أمن مخففة الميم والباقون بالتشديد، أما التخفيف ففيه وجهان الأول : أن الألف ألف الاستفهام داخلة على من، والجواب محذوف على تقدير كمن ليس كذلك، وقيل كالذي جعل للّه أندادا فاكتفى بما سبق ذكره والثاني : أن يكون ألف نداء كأنه قيل يا من هو قانت من أهل الجنة، وأما التشديد فقال الفراء الأصل أم من فأدغمت الميم في الميم وعلى هذا القول هي أم التي في قولك أزيد أفضل أم عمرو.
المسألة الثانية : القانت القائم بما يجب عليه من الطاعة، ومنه
قوله صلى اللّه عليه وسلّم «أفضل الصلاة صلاة القنوت»
وهو القيام فيها. ومنه القنوت في الصبح لأنه يدعو قائما. عن ابن عمر رضي اللّه عنه أنه قال لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ وعن ابن عباس القنوت طاعة اللّه، لقوله : كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [البقرة :
١١٦] أي مطيعون، وعن قتادة آناءَ اللَّيْلِ ساعات الليل أوله ووسطه وآخره، وفي هذه اللفظة تنبيه على فضل قيام الليل وأنه أرجح من قيام النهار، ويؤكده وجوه الأول : أن عبادة الليل أستر عن العيون فتكون أبعد عن الرياء الثاني : أن الظلمة تمنع من الإبصار ونوم الخلق يمنع من السماع، فإذا صار القلب فارغا عن الاشتغال بالأحوال الخارجية عاد إلى المطلوب الأصلي، وهو معرفة اللّه وخدمته الثالث : أن الليل وقت النوم فتركه يكون أشق فيكون الثواب أكثر الرابع : قوله تعالى : إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل : ٦] وقوله :
ساجِداً حال، وقرئ ساجد وقائم على أنه خبر بعد خبر والواو للجمع بين الصفتين.
واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها : أنه بدأ فيها بذكر العمل وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فكونه قانتا ساجدا قائما، وأما العلم فقوله : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وهذا يدل على أن كمال الإنسان محصور في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية والعلم والمكاشفة هو النهاية.
الفائدة الثاني : أنه تعالى نبه على أن الانتفاع بالعمل إنما يحصل إذا كان الإنسان مواظبا عليه، فإن القنوت


الصفحة التالية
Icon