مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٤٨
السؤال الثالث : لم قال إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ولم يقل إلى ذكر رحمة اللّه؟ والجواب : أن من أحب اللّه لأجل رحمته فهو ما أحب اللّه، وإنما أحب شيئا غيره، وأما من أحب اللّه لا لشيء سواه فهذا هو المحب المحق وهو الدرجة العالية، فلهذا السبب لم يقل ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر رحمة اللّه بل قال إلى ذكر اللّه، وقد بين اللّه تعالى هذا المعنى في قوله تعالى : فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام : ١٢٥] وفي قوله :
أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد : ٢٨] وأيضا قال لأمة موسى : يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة : ٤٠] وقال أيضا لأمة محمد صلى اللّه عليه وسلّم : فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة : ١٥٢].
السؤال الرابع : لم قال في جانب الخوف قشعريرة الجلود فقط، وفي جانب الرجاء لين الجلود والقلوب معا؟ والجواب : لأن المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف، لأن الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض ومحل المكاشفات هو القلوب والأرواح واللّه أعلم.
ثم إنه تعالى لما وصف القرآن بهذه الصفات قال : ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ فقوله : ذلِكَ إشارة إلى الكتاب وهو هدى اللّه يهدي به من يشاء من عباده وهو الذي شرح صدره أولا لقبول هذه الهداية وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي من جعل قلبه قاسيا مظلما بليد الفهم منافيا لقبول هذه الهداية فَما لَهُ مِنْ هادٍ واستدلال أصحابنا بهذه الآية وسؤالات المعتزلة وجوابات أصحابنا عين ما تقدم في قوله :
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ.
أما قوله تعالى : أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فاعلم أنه تعالى حكم على القاسية قلوبهم بحكم في الدنيا وبحكم في الآخرة، أما حكمهم في الدنيا فهو الضلال التام كما قال : وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ [الرعد : ٣٣] وأما حكمهم في الآخرة فهو العذاب الشديد وهو المراد من قوله : أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وتقريره أن أشرف الأعضاء هو الوجه لأنه محل الحسن والصباحة، وهو أيضا صومعة الحواس، وإنما يتميز بعض الناس عن بعض بسبب الوجه، وأثر السعادة والشقاوة لا يظهر إلا في الوجه قال تعالى : وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس : ٣٨- ٤٢] ويقال لمقدم القوم يا وجه العرب، ويقال للطريق الدال على كنه حال الشيء وجه كذا هو كذا، فثبت بما ذكرنا أن أشرف الأعضاء هو الوجه، فإذا وقع الإنسان في نوع من أنواع العذاب فإنه يجعل يده وقاية لوجهه وفداء له، وإذا عرفت هذا فنقول : إذا كان القادر على الاتقاء يجعل كل ما سوى الوجه فداء للوجه لا جرم حسن جعل الاتقاء بالوجه كناية عن العجز عن الاتقاء، ونظيره قول النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
أي لا عيب فيهم إلا هذا وهو ليس بعيب فلا عيب فيهم إذن بوجه من الوجوه، فكذا هاهنا لا يقدرون على الاتقاء بوجه من الوجوه إلا بالوجه وهذا ليس باتقاء، فلا قدرة لهم على الاتقاء ألبتة، ويقال أيضا إن الذي يلقى في النار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه ولا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، إذا عرفت هذا فنقول : جوابه محذوف وتقديره أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن هو آمن من العذاب فحذف الخبر كما حذف في نظائره، وسوء العذاب شدته.


الصفحة التالية
Icon