مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٤٨٣
وأما قوله مِنَ اللَّهِ فاعلم أنه لما ذكر أن حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ وجب بيان أن المنزل من هو؟
فقال : مِنَ اللَّهِ ثم بيّن أن اللّه تعالى موصوف بصفات الجلال وسمات العظمة ليصير ذلك حاملا على التشمير عن ساق الجد عند الاستماع وزجره عن التهاون والتواني فيه، فبين أن المنزل هو اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
واعلم أن الناس اختلفوا في أن العلم باللّه ما هو؟ فقال جمع عظيم، أنه العلم بكونه قادرا وبعده العالم بكونه عالما، إذا عرفت هذا فنقول الْعَزِيزِ له تفسيران أحدهما : الغالب فيكون معناه القادر الذي لا يساويه أحد في القدرة والثاني : الذي لا مثل له، ولا يجوز أن يكون المراد بالعزيز هنا القادر، لأن قوله تعالى : اللَّهِ يدل على كونه قادرا، فوجب حمل الْعَزِيزِ على المعنى الثاني وهو الذي لا يوجد له مثل، وما كان كذلك وجب أن لا يكون جسما، والذي لا يكون جسما يكون منزّها عن الشهوة والنفرة، والذي يكون كذلك يكون منزّها عن الحاجة.
وأما الْعَلِيمِ فهو مبالغة في العلم، والمبالغة التامة إنما تتحقق عند كونه تعالى عالما بكل المعلومات، فقوله مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ يرجع معناه إلى أن هذا الكتاب تنزيل من القادر المطلق، الغني المطلق، العالم المطلق، ومن كان كذلك كان عالما بوجوه المصالح والمفاسد، وكان عالما بكونه غنيا عن جر المصالح ودفع المفاسد، ومن كان كذلك كان رحيما جوادا، وكانت أفعاله حكمة وصوابا منزّهة عن القبيح والباطل، فكأنه سبحانه إنما ذكر عقيب قوله تَنْزِيلُ هذه الأسماء الثلاثة لكونها دالة على أن أفعاله سبحانه حكمة وصواب، ومتى كان الأمر كذلك لزم أن يكون هذا التنزيل حقا وصوابا، وقيل الفائدة في ذكر الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ أمران أحدهما : أنه بقدرته وعلمه أنزل القرآن على هذا الحد الذي يتضمن المصالح والإعجاز، ولولا كونه عزيزا عليما لما صح ذلك والثاني : أنه تكفل بحفظه وبعموم التكليف فيه وظهوره إلى حين انقطاع التكليف، وذلك لا يتم إلا بكونه عزيزا لا يغلب وبكونه عليما لا يخفى عليه شيء، ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد والترهيب والترغيب، فقال : غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فهذه ستة أنواع من الصفات :
الصفة الأولى : قوله غافِرِ الذَّنْبِ قال الجبائي : معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بتوبة أو طاعة أعظم منه، ومراده منه أن فاعل المعصية إما أن يقال إنه كان قد أتى قبل ذلك بطاعة / كان ثوابها أعظم من عقاب هذه المعصية أو ما كان الأمر كذلك فإن كان الأول كانت هذه المعصية صغيرة فيحبط عقابها، وإن كان الثاني كانت هذه المعصية كبيرة فلا يزول عقابها إلا بالتوبة، ومذهب أصحابنا أن اللّه تعالى قد يعفو عن الكبيرة بعد التوبة، وهذه الآية تدل على ذلك وبيانه من وجوه الأول : أن غفران الكبيرة بعد التوبة وغفران الصغيرة من الأمور الواجبة على العبد، وجميع الأنبياء والأولياء والصالحين من أوساط الناس مشتركون في فعل الواجبات، فلو حملنا كونه تعالى غافر الذنب على هذا المعنى لم يبق بينه وبين أقل الناس من زمرة المطيعين فرق في المعنى الموجب لهذا المدح وذلك باطل، فثبت أنه يجب أن يكون المراد منه كونه غافر الكبائر قبل التوبة وهو المطلوب الثاني : أن الغفران عبارة عن الستر ومعنى الستر إنما يعقل في الشيء الذي يكون باقيا موجودا فيستر، والصغيرة تحبط بسبب كثرة ثواب فاعلها، فمعنى الغفر فيها غير معقول، ولا يمكن حمل قوله غافِرِ الذَّنْبِ