مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٤٩١
العدم المحض والنفي الصرف، فأخرجتني إلى الوجود، وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعا إليك في أن لا تخليني طرفة عين عن تربيتك وإحسانك وفضلك.
المسألة الثانية : السنة في الدعاء، يبدأ فيه بالثناء على اللّه تعالى، ثم يذكر الدعاء عقيبه، والدليل عليه هذه الآية، فإن الملائكة لما عزموا على الدعاء والاستغفار للمؤمنين بدءوا بالثناء فقالوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وأيضا أن الخليل عليه السلام لما أراد أن يذكر الدعاء ذكر الثناء أولا فقال : الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء : ٧٨- ٨٢] فكل هذا ثناء على اللّه تعالى، ثم بعده ذكر الدعاء فقال : رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء : ٨٣].
واعلم أن العقل يدل أيضا على رعاية هذا الترتيب، وذلك ذكر اللّه بالثناء والتعظيم بالنسبة إلى جوهر الروح كالإكسير الأعظم بالنسبة إلى النحاس، فكما أن ذرة من الإكسير إذا وقعت على عالم من النحاس انقلب الكل ذهبا إبريزا «١» فكذلك إذا وقعت ذرة من إكسير معرفة جلال اللّه تعالى على جوهر الروح النطقية، انقلب من نحوسة النحاسة إلى صفاء القدس وبقاء عالم الطهارة، فثبت أن عند إشراق نور معرفة اللّه تعالى في جواهر الروح، يصير الروح أقوى صفاء وأكمل إشراقا، ومتى صار كذلك كانت قوته أقوى وتأثيره أكمل، فكان حصول الشيء المطلوب بالدعاء أقرب وأكمل، وهذا هو السبب في تقديم الثناء على اللّه على الدعاء.
المسألة الثالثة : اعلم أن الملائكة وصفوا اللّه تعالى بثلاثة أنواع من الصفات : الربوبية والرحمة والعلم، أما الربوبية فهي إشارة إلى الإيجاد والإبداع، وفيه لطيفة أخرى وهي أن قولهم / رَبَّنا إشارة إلى التربية، والتربية عبارة عن إبقاء الشيء على أكمل أحواله وأحسن صفاته، وهذا يدل على أن هذه الممكنات، كما أنها محتاجة حال حدوثها إلى إحداث الحق سبحانه وتعالى وإيجاده، فكذلك إنها محتاجة حال بقائها إلى إبقاء اللّه، وأما الرحمة فهي إشارة إلى أن جانب الخير والرحمة والإحسان راجح على جانب الضر، وأنه تعالى إنما خلق الخلق للرحمة والخير، لا للإضرار والشر، فإن قيل قوله رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فيه سؤال، لأن العلم وسع كل شيء، أما الرحمة فما وصلت إلى كل شيء، لأن المضرور حال وقوعه في الضر لا يكون ذلك الضرر رحمة، وهذا السؤال أيضا مذكور في قوله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف : ١٥٦] قلنا كل وجود فقد نال من رحمة اللّه تعالى نصيبا وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن، أما الواجب فليس إلا اللّه سبحانه وتعالى،

(١) رحم اللّه الفخر فيظهر من كلامه هذا أنه كان مشغولا بصنعة الكيمياء التي فتنت عقول أكثر الناس ووقع بسببها مصائب كثيرة للمسلمين فشغلوا بها عن المطالب الحقيقة وعن العليات، مع أن التجارب والأحداث دلت على أنها خدعة ووهم باطل وأنها لا حقيقة لها، وأحسن ما رد به على من يقول بالصنعة ما رأيته للصفدي في شرح اللامية : إن الذهب من عمل الطبيعة وما كان من عمل الطبيعة لا يمكن للإنسان عمله كما أن ما يعمله الإنسان من المصنوعات لا يمكن للطبيعة أن تعمله ا ه-. فسبحان من تفرد بالعزة والخلق والإيجاد، أكتب هذا عسى أن يهدي اللّه مسلما شغل نفسه بهذا الفن الزائف والوهم الباطل، وأقول إن الكيمياء الحقيقية هي الاشتغال بالعلم والتجارة والصناعة فهي سبب نماء المال الذي هو أفضل كيمياء.


الصفحة التالية
Icon