مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٤٩٥
الآية ليس إلا حياتين فقط، فتكون إحداهما الحياة في الدنيا والحياة الثانية في القيامة والموت الحاصل بينهما هو الموت المشاهد في الدنيا.
السؤال الرابع : أنه إن دلت هذه الآية على حصول الحياة في القبر فههنا ما يدل على عدمه وذلك بالمنقول والمعقول، أما المنقول فمن وجوه الأول : قوله تعالى : أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر : ٩] فلم يذكر في هذه الآية إلا الحذر عن الآخرة، ولو حصلت الحياة في القبر لكان الحذر عنها حاصلا، ولو كان الأمر كذلك لذكره، ولما لم يذكره علمنا أنه غير حاصل الثاني : أنه تعالى حكى في سورة الصافات عن المؤمنين المحقين أنهم يقولون بعد دخولهم في الجنة أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى [الصافات : ٥٨، ٥٩] ولا شك أن كلام أهل الجنة حق وصدق ولو حصلت لهم حياة في القبر لكانوا قد ماتوا موتتين، وذلك على خلاف قوله أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ / إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى قالوا والاستدلال بهذه الآية أقوى من الاستدلال بالآية التي ذكرتموها، لأن الآية التي تمسكنا بها حكاية قول المؤمنين الذين دخلوا الجنة والآية التي تمسكتم بها حكاية قول الكافرين الذين دخلوا النار.
وأما المعقول فمن وجوه الأول : وهو أن الذي افترسته السباع وأكلته لو أعيد حيا لكان إما أن يعاد حيا بمجموعة أو بآحاد أجزائه، والأول باطل لأن الحس يدل على أنه لم يحصل له مجموع، والثاني باطل لأنه لما أكلته السباع، فلو جعلت تلك الأجزاء أحياء لحصلت أحياء في معدة السباع وفي أمعائها، وذلك في غاية الاستبعاد الثاني : أن الذي مات لو تركناه ظاهرا بحيث يراه كل واحد فإنهم يرونه باقيا على موته، فلو جوزنا مع هذه الحالة أنه يقال إنه صار حيا لكان هذا تشكيكا في المحسوسات، وإنه دخول في السفسطة (و الجواب) قوله لم لا يجوز أن تكون الموتة الأولى هي الموتة التي كانت حاصلة حال ما كان نطفة وعلقة؟ فنقول هذا لا يجوز، وبيانه أن المذكور في الآية أن اللّه أماتهم ولفظ الإماتة مشروط بسبق حصول الحياة إذ لو كان الموت حاصلا قبل هذه الحالة امتنع كون هذا إماتة، وإلا لزم تحصيل الحاصل وهو محال وهذا بخلاف قوله كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً لأن المذكور في هذه الآية أنهم كانوا أمواتا وليس فيها أن اللّه أماتهم بخلاف الآية التي نحن في تفسيرها، لأنها تدل على أن اللّه تعالى أماتهم مرتين، وقد بينا أن لفظ الإماتة لا يصدق إلا عند سبق الحياة فظهر الفرق.
أما قوله إن هذا كلام الكفار فلا يكون حجة، قلنا لما ذكروا ذلك لم يكذبهم اللّه تعالى إذ لو كانوا كاذبين لأظهر اللّه تكذيبهم، ألا ترى أنهم لما كذبوا في قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ كذبهم اللّه في ذلك فقال :
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا [الأنعام : ٢٣، ٢٤] وأما قوله ظاهر الآية يمنع من إثبات حياة في القبرة إذ لو حصلت هذه الحياة لكان عدد الحياة ثلاث مرات لا مرتين، فنقول (الجواب) عنه من وجوه : الأول : هو أن مقصودهم تعديل أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة الموتة الأولى، والحياة في القبر، والموتة الثانية، والحياة في القيامة، فهذه الأربعة أوقات البلاء والمحنة، فأما الحياة في الدنيا، فليست من أقسام أوقات البلاء والمحنة فلهذا السبب لم يذكروها الثاني : لعلهم ذكروا الحياتين، وهي الحياة في الدنيا، والحياة في القيامة، أما الحياة في القبر فأهملوا ذكرها لقلة وجودها وقصر مدتها الثالث : لعلهم لما صاروا أحياء في القبور لم يموتوا بل بقوا أحياء، إما في السعادة، وإما في الشقاوة، واتصل بها حياة القيامة فكانوا من جملة من أرادهم اللّه بالاستثناء في قوله فَصَعِقَ