مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٤٩٧
في المعبودية، فقال : هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ واعلم أن أهم المهمات رعاية مصالح الأديان، ومصالح الأبدان، فهو سبحانه وتعالى راعى مصالح أديان العباد بإظهار البينات والآيات، وراعى مصالح أبدانهم بإنزال الرزق من السماء، فموقع الآيات من الأديان كموقع الأرزاق من الأبدان، فالآيات لحياة الأديان، والأرزاق لحياة الأبدان، وعند حصولهما يحصل الإنعام على أقوى الاعتبارات وأكمل الجهات.
ثم قال : وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ والمعنى أن الوقوف على دلائل توحيد اللّه تعالى كالأمر المركوز في العقل، إلا أن القول بالشرك والاشتغال بعبادة غير اللّه يصير كالمانع من تجلي تلك الأنوار، فإذا أعرض العبد عنها وأناب إلى اللّه تعالى زال الغطاء والوطاء فظهر الفوز التام، ولما قرر هذا المعنى صرح بالمطلوب وهو الإعراض عن غير اللّه والإقبال بالكلية على اللّه تعالى فقال : فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك، ومن الالتفات إلى غير اللّه وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ قرأ ابن كثير ينزل خفيفة والباقون بالتشديد.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ١٥ إلى ١٧]
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧)
اعلم أنه تعالى لما ذكر من صفات كبريائه وإكرامه كونه مظهرا للآيات منزلا للأرزاق، ذكر في هذه الآية ثلاثة أخرى من صفات الجلال والعظمة وهو قوله رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ / يُلْقِي الرُّوحَ قال صاحب «الكشاف» ثلاثة أخبار لقوله هُوَ مرتبة على قوله الَّذِي يُرِيكُمْ [غافر : ١٣] أو أخبار مبتدأ محذوف، وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا، قرئ رَفِيعُ الدَّرَجاتِ بالنصب على المدح، وأقول لا بد من تفسير هذه الصفات الثلاثة :
فالصفة الأولى : قوله رَفِيعُ الدَّرَجاتِ واعلم أن الرفيع يحتمل أن يكون المراد منه الرافع وأن يكون المراد منه المرتفع، أما إذا حملناه على الأول ففيه وجوه الوجه الأول : أنه تعالى يرفع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة والثاني : رافع درجات الخلق في العلوم والأخلاق الفاضلة، فهو سبحانه عين لكل أحد من الملائكة درجة معينة، كما قال : وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات : ١٦٤] وعين لكل واحد من العلماء درجة معينة فقال : يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة : ١١] وعين لكل جسم درجة معينة، فجعل بعضها سفلية عنصرية، وبعضها فلكية كوكبية، وبعضها من جواهر العرش والكرسي، فجعل لبعضها درجة أعلى من درجة الثاني، وأيضا جعل لكل واحد مرتبة معينة في الخلق والرزق والأجل، فقال : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [الأنعام : ١٦٥] وجعل لكل أحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة، وفي الآخرة آثار لظهور تلك السعادة والشقاء، فإذا حملنا الرفيع على الرفع كان معناه ما ذكرناه، وأما إذا حملناه على المرتفع فهو سبحانه أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال، أما في الأصل الوجود فهو أرفع الموجودات، لأنه واجب الوجود لذاته وما سواه ممكن ومحتاج إليه، وأما في دوام الوجود فهو أرفع الموجودات، لأنه واجب الوجود لذاته وهو الأزلي والأبدي والسرمدي، الذي هو أول لكل ما سواه، وليس له أول وآخر لكل ما سواه، وليس له آخر، أما في العلم : فلأنه هو العالم بجميع الذوات والصفات والكليات والجزئيات، كما قال : وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ


الصفحة التالية
Icon