مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٣٠
اعلم أنا بينا أن دلائل وجود اللّه وقدرته إما أن تكون من دلائل الآفاق أو من باب دلائل الأنفس، أما دلائل الآفاق فالمراد كل ما هو غير الإنسان من كل هذا العالم وهي أقسام كثيرة، والمذكور منها في هذه الآية أقسام منها أحوال الليل والنهار وقد سبق ذكره وثانيها : الأرض والسماء وهو المراد من قوله اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً قال ابن عباس في قوله قَراراً أي منزلا في حال الحياة وبعد الموت وَالسَّماءَ بِناءً كالقبة المضروبة على الأرض، وقيل مسك الأرض بلا عمد حتى أمكن التصرف عليها وَالسَّماءَ بِناءً أي قائما ثابتا وإلا لوقعت علينا، وأما دلائل الأنفس فالمراد منها دلالة أحوال بدن الإنسان ودلالة أحوال نفسه على وجود الصانع القادر الحكيم، والمذكور منها في هذه الآية قسمان أحدها : ما هو حاصل مشاهد حال كمال حاله والثاني : ما كان حاصلا في ابتداء خلقته وتكوينه.
أما القسم الأول : فأنواع كثيرة والمذكور منها في هذه الآية أنواع ثلاثة أولها : حدوث صورته وهو المراد من قوله وَصَوَّرَكُمْ وثانيها : حسن صورته وهو المراد من قوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ، وثالثها : أنه رزقه من الطيبات وهو المراد من قوله وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وقد أطنبنا في تفسير هذه الأشياء في هذا الكتاب مرارا لا سيما في تفسير قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء : ٧٠] ولما ذكر اللّه تعالى هذه الدلائل الخمسة اثنين من دلائل الآفاق وثلاثة من دلائل الأنفس قال : ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وتفسير تبارك إما الدوام والثبات وإما كثرة الخيرات، ثم قال : هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وهذا يفيد الحصر وأن لا حي إلا هو، فوجب أن يحمل ذلك على الحي الذي يمتنع أن يموت امتناعا ذاتيا وحينئذ لا حي إلا هو فكأنه أجرى الشيء الذي يجوز زواله مجرى المعدوم.
واعلم أن الحي عبارة عن الدراك الفعال والدراك إشارة إلى العلم التام، والفعال إشارة إلى القدرة الكاملة، ولما نبه على هاتين الصفتين من صفات الجلال نبه على الصفة الثالثة وهي : الوحدانية بقوله لا إله إلا هو، ولما وصفه بهذه الصفات أمر العباد بشيئين أحدها : بالدعاء والثاني : بالإخلاص فيه، فقال : فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ثم قال : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فيجوز أن يكون المراد قول : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ويجوز أن يكون المراد أنه لما كان موصوفا بصفات الجلال والعزة استحق لذاته أن يقال له الحمد للّه رب العالمين ولما بيّن صفات الجلال والعظمة قال : قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فأورد ذلك على المشركين بألين / قول ليصرفهم عن عبادة الأوثان، وبيّن أن وجه النهي في ذلك ما جاءه من البينات، وتلك البينات أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفا بصفات الجلال والعظمة على ما تقدم ذكره، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به، وأن جعل الأحجار المنحوتة والخشب المصورة شركاء له في المعبودية مستنكر في بديهة العقل.
ولما بيّن أنه أمر بعبادة اللّه تعالى فقال : وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وإنما ذكر هذه الأحكام في حق نفسه لأنهم كانوا يعتقدون فيه أنه في غاية العقل وكمال الجوهر، ومن المعلوم بالضرورة أن كل أحد فإنه لا يريد


الصفحة التالية
Icon