مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٣١
لنفسه إلا الأفضل الأكمل، فإذا ذكر أن مصلحته لا تتم إلا بالإعراض عن غير اللّه والإقبال بالكلية على طاعة اللّه ظهر به أن هذا الطريق أكمل من كل ما سواه، ثم قال : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ.
واعلم أنا قد ذكرنا أن الدلائل على قسمين دلائل الآفاق والأنفس، أما دلائل الآفاق فكثيرة والمذكور منها في هذه الآية أربعة : الليل والنهار والأرض والسماء، وأما دلائل الأنفس فقد ذكرنا أنها على قسمين أحدها :
الأحوال الحاضرة حال كمال الصحة وهي أقسام كثيرة، والمذكور هاهنا منها ثلاثة أنواع : الصورة وحسن الصورة ورزق الطيبات.
وأما القسم الثاني : وهو كيفية تكون هذا البدن من ابتداء كونه نطفة وجنينا إلى آخر الشيخوخة والموت فهو المذكور في هذه الآية فقال : هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فقيل المراد آدم، وعندي لا حاجة إليه لأن كل إنسان فهو مخلوق من المني ومن دم الطمث، والمني مخلوق من الدم فالإنسان مخلوق من الدم والدم إنما يتولد من الأغذية والأغذية إما حيوانية وإما نباتية، والحال في تكون ذلك الحيوان كالحال في تكون الإنسان، فالأغذية بأسرها منتهية إلى النباتية والنبات إنما يكون من التراب والماء، فثبت أن كل إنسان فهو متكون من التراب، ثم إن ذلك التراب يصير نطفة ثم علقة بعد كونه علقة مراتب كثيرة إلى أن ينفصل من بطن الأم، فاللّه تعالى ترك ذكرها هاهنا لأجل أنه تعالى ذكرها في سائر الآيات.
واعلم أنه تعالى رتب عمر الإنسان على ثلاث مراتب أولها : كونه طفلا، وثانيها : أن يبلغ أشده، وثالثها :
الشيخوخة وهذا ترتيب صحيح مطابق للعقل، وذلك لأن الإنسان في أول عمره يكون في التزايد والنشوء والنماء وهو المسمى بالطفولية والمرتبة الثانية : أن يبلغ إلى كمال النشوء وإلى أشد السن من غير أن يكون قد حصل فيه نوع من أنواع الضعف، وهذه المرتبة هي المراد من قوله لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ والمرتبة الثالثة : أن يتراجع ويظهر فيه أثر من آثار الضعف والنقص، وهذه المرتبة هي المراد من قوله ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وإذا عرفت هذا التقسيم عرفت أن مراتب العمر بحسب هذا التقسيم لا تزيد على هذه الثلاثة، قال صاحب «الكشاف» : قوله لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ متعلق بفعل محذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا.
ثم قال : وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ أي من قبل الشيخوخة أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا.
ثم قال : وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى ومعناه يفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى وهو وقت الموت وقيل يوم القيامة.
ثم قال : وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في هذه الأحوال العجيبة من أنواع العبر وأقسام الدلائل.
[سورة غافر (٤٠) : آية ٦٨]
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨)
اعلم أنه تعالى لما ذكر انتقال الإنسان من كونه ترابا إلى كونه نطفة ثم إلى كونه علقة ثم إلى كونه طفلا ثم إلى بلوغ الأشد ثم إلى الشيخوخة واستدل بهذه التغيرات على وجود الإله القادر قال بعده : هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ يعني كما أن الانتقال من صفة إلى صفة أخرى من الصفات التي تقدم ذكرها يدل على الإله القادر، فكذلك الانتقال من الحياة إلى الموت وبالعكس يدل على الإله القادر وقوله فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيه وجوه الأول : معناه أنه لما نقل هذه الأجسام من بعض هذه الصفات إلى صفة أخرى لم يتعب في


الصفحة التالية
Icon