مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٣٢
ذلك التصرف ولم يحتج إلى آلة وأداة، فعبّر عن نفاذ قدرته في الكائنات والمحدثات من غير معارض ولا مدافع بما إذا قال : كُنْ فَيَكُونُ الوجه الثاني : أنه عبّر عن الإحياء والإماتة بقول كُنْ فَيَكُونُ فكأنه قيل الانتقال من كونه ترابا إلى كونه نطفة، ثم إلى كونه علقة انتقالات تحصل على التدريج قليلا قليلا، وأما صيرورة الحياة فهي إنما تحصل لتعليق جوهر الروح النطقية به، وذلك يحدث دفعة واحدة، فلهذا السبب وقع التعبير عنه بقوله كُنْ فَيَكُونُ الوجه الثالث : أن من الناس من يقول إن تكون الإنسان إنما ينعقد من المني والدم في الرحم في مدة معينة وبحسب انتقالاته من حالات إلى حالات، فكأنه قيل إنه يمتنع أن يكون كل إنسان عن إنسان آخر، لأن التسلسل محال، ووقوع الحادث في الأزل محال، فلا بد من الاعتراف بإنسان هو أول الناس، فحينئذ يكون حدوث ذلك الإنسان لا بواسطة المني والدم، بل بإيجاد اللّه تعالى ابتداء، فعبّر اللّه تعالى عن هذا المعنى بقوله كُنْ فَيَكُونُ.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٩ إلى ٧٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣)
مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦)
اعلم أنه تعالى عاد إلى ذم الذين يجادلون في آيات اللّه فقال : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ وهذا ذم لهم على أن جادلوا في آيات اللّه ودفعها والتكذيب بها، فعجب تعالى منهم بقوله أَنَّى يُصْرَفُونَ كما يقول الرجل لمن لا يبين : أنى يذهب بك تعجبا من غفلته، ثم بيّن أنهم هم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ أي بالقرآن وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب، فإن قيل سوف للاستقبال، وإذ للماضي فقوله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ مثل قولك : سوف أصوم أمس، قلنا المراد من قوله إذ هو إذا، لأن الأمور المستقبلة لما كانت في أخبار اللّه تعالى متيقنة مقطوعا بها عبر عنها بلفظ ما كان ووجد، والمعنى على الاستقبال، هذا لفظ صاحب «الكشاف» :
ثم إنه تعالى وصف كيفية عقابهم فقال : إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ، فِي الْحَمِيمِ والمعنى : أنه يكون في أعناقهم الأغلال والسلاسل، ثم يسحبون بتلك السلاسل في الحميم، أي في الماء المسخن بنار جهنم ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ والسجر في اللغة الإيقاد في التنور، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم، ويقرب منه قوله تعالى : نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [الهمزة : ٦، ٧] ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيقولون ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم، ثم