مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٣٨
دالتان على كمال الرحمة، فالتنزيل المضاف إلى هاتين الصفتين لا بد وأن يكون دالا على أعظم وجوه النعمة، والأمر في نفسه كذلك، لأن الخلق في هذا العالم كالمرضى والزمنى والمحتاجين، والقرآن مشتمل على كل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية وعلى كل ما يحتاج إليه الأصحاء من الأغذية، فكان أعظم النعم عند اللّه تعالى على أهل هذا العالم إنزال القرآن عليهم وثالثها : كونه كتابا وقد بينا أن هذا الاسم مشتق من الجمع وإنما سمي كتابا لأنه جمع فيه علوم الأولين والآخرين ورابعها : قوله فُصِّلَتْ آياتُهُ والمراد أنه فرقت آياته وجعلت تفاصيل في معان مختلفة فبعضها في وصف ذات اللّه تعالى وشرح صفات التنزيه والتقديس وشرح كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته وعجائب أحوال خلقه السموات والأرض والكواكب وتعاقب الليل والنهار وعجائب أحوال النبات والحيوان والإنسان، وبعضها في أحوال التكاليف المتوجهة نحو القلوب ونحو الجوارح، وبعضها في الوعد والوعيد والثواب والعقاب درجات أهل الجنة ودرجات أهل النار، وبعضها في المواعظ والنصائح وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس، وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين، وبالجملة فمن أنصف علم أنه ليس في يد الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم المختلفة والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن وخامسها : قوله قُرْآناً والوجه في تسميته قرآنا قد سبق وقوله تعالى : قُرْآناً نصب على الاختصاص والمدح أي أريد بهذا الكتاب المفصل قرآنا من صفته كيت وكيت، وقيل هو نصب على الحال وسادسها : قوله عَرَبِيًّا والمعنى أن هذا القرآن إنما نزل بلغة العرب وتأكد هذا بقوله تعالى : وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم : ٤] وسابعها : قوله تعالى : لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ والمعنى إنا جعلناه عربيا لأجل أنا أنزلناه على قوم عرب فجعلناه بلغة العرب ليفهموا منه المراد، فإن قيل
قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ متعلق بما ذا؟ قلنا يجوز أن يتعلق بقوله تَنْزِيلٌ أو بقوله فُصِّلَتْ أي تنزيل من اللّه لأجلهم أو فصلت آياته لأجلهم، والأجود أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده، أي قرآنا عربيا كائنا لقوم عرب، لئلا يفرق بين الصلات والصفات وثامنها وتاسعها : قوله بَشِيراً وَنَذِيراً يعني بشيرا للمطيعين بالثواب ونذيرا للمجرمين / بالعقاب، والحق أن القرآن بشارة ونذارة إلا أنه أطلق اسم الفاعل عليه للتنبيه على كونه كاملا في هذه الصفة، كما يقال شعر شاعر وكلام قائل.
الصفة العاشرة : كونهم معرضين عنه لا يسمعون ولا يلتفتون إليه، فهذه هي الصفات العشرة التي وصف اللّه القرآن بها، ويتفرع عليها مسائل :
المسألة الأولى : القائلون بخلق القرآن احتجوا بهذه الآية من وجوه الأول : أنه وصف القرآن بكونه تنزيلا ومنزلا والمنزل والتنزيل مشعر بالتصيير من حال، فوجب أن يكون مخلوقا الثاني : أن التنزيل مصدر والمصدر هو المفعول المطلق باتفاق النحويين الثالث : المراد بالكتاب إما الكتاب وهو المصدر الذي هو المفعول المطلق أو المكتوب الذي هو المفعول الرابع : أن قوله فُصِّلَتْ يدل على أن متصرفا يتصرف فيه بالتفصيل والتمييز، وذلك لا يليق بالقديم الخامس : أنه إنما سمي قرآنا لأنه قرن بعض أجزائه بالبعض وذلك يدل على كونه مفعول فاعل ومجعول جاعل السادس : وصفه بكونه عربيا، وإنما صحت هذه النسبة لأجل أن هذه الألفاظ إنما دخلت على هذه المعاني بحسب وضع العرب واصطلاحاتهم، وما جعل بجعل جاعل وفعل فاعل فلا بدّ وأن يكون محدثا ومخلوقا الجواب : أن كل هذه الوجوه التي ذكرتموها عائدة إلى اللغات وإلى الحروف والكلمات، وهي عندنا محدثة مخلوقة، إنما الذي ندعي قدمه شيء آخر سوى هذه الألفاظ واللّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon