مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٣٩
المسألة الثانية : ذهب أكثر المتكلمين إلى أنه يجب على المكلف تنزيل ألفاظ القرآن على المعاني التي هي موضوعة لها بحسب اللغة العربية، فأما حملها على معان أخر لا بهذا الطريق فهذا باطل قطعا، وذلك مثل الوجوه التي يذكرها أهل الباطن، مثل أنهم تارة يحملون الحروف على حساب الجمل وتارة يحملون كل حرف على شيء آخر، وللصوفية طرق كثيرة في الباب ويسمونها علم المكاشفة والذي يدل على فساد تلك الوجوه بأسرها قوله تعالى : قُرْآناً عَرَبِيًّا وإنما سماه عربيا لكونه دالا على هذه المعاني المخصوصة بوضع العرب وباصطلاحاتهم، وذلك يدل على أن دلالة هذه الألفاظ لم تحصل إلا على تلك المعاني المخصوصة، وأن ما سواه فهو باطل.
المسألة الثالثة : ذهب قوم إلى أنه حصل في القرآن من سائر اللغات كقوله إِسْتَبْرَقٍ [الكهف : ٣١] وسِجِّيلٍ [هود : ٨٢] فإنهما فارسيان، وقوله كَمِشْكاةٍ [النور : ٣٥] فإنها من لغة الحبشة وقوله بِالْقِسْطاسِ [الإسراء : ٣٥] فإنه من لغة الروم والذي يدل على فساد هذا المذهب قوله قُرْآناً عَرَبِيًّا، وقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ [إبراهيم : ٤].
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة لفظ الإيمان والكفر والصلاة والزكاة والصوم والحج ألفاظ شرعية لا لغوية، والمعنى أن الشرع نقل هذه الألفاظ عن مسمياتها اللغوية الأصلية إلى مسميات أخرى، وعندنا أن هذا باطل، وليس للشرع تصرف في هذه الألفاظ عن مسمياتها إلا / من وجه واحد، وهو أنه خصص هذه الأسماء بنوع واحد من أنواع مسمياتها مثلا، الإيمان عبارة عن التصديق فخصصه الشرع بنوع معين من التصديق، والصلاة عبارة عن الدعاء فخصصه الشرع بنوع معين من الدعاء، كذا القول في البواقي ودليلنا على صحة مذهبنا قوله تعالى : قُرْآناً عَرَبِيًّا، وقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ.
المسألة الخامسة : إنما وصف اللّه القرآن بكونه عَرَبِيًّا في معرض المدح والتعظيم وهذا المطلوب لا يتم إلا إذا ثبت أن لغة العرب أفضل اللغات.
واعلم أن هذا المقصود إنما يتم إذا ضبطنا أقسام فضائل اللغات بضابط معلوم، ثم بينا أن تلك الأقسام حاصلة فيه لا في غيره، فنقول لا شك أن الكلام مركب من الكلمات المفردة، وهي مركبة من الحروف، فالكلمة لها مادة وهي الحروف، ولها صورة وهي تلك الهيئة المعينة الحاصلة عند التركيب. فهذه الفضيلة إنما تحصل إما بحسب مادتها أو بحسب صورتها، أما التي بحسب مادتها فهي آحاد الحروف، واعلم أن الحروف على قسمين بعضها بينة المخارج ظاهرة المقاطع وبعضها خفية المخارج مشتبهة المقاطع، وحروف العرب بأسرها ظاهرة المخارج بينة المقاطع، ولا يشتبه شيء منها بالآخر. وأما الحروف المستعملة في سائر اللغات فليست كذلك بل قد يحصل فيها حرف يشتبه بعضها بالبعض، وذلك يخل بكمال الفصاحة، وأيضا الحركات المستعملة في سائر لغة العرب حركات ظاهرة جلية وهي النصب والرفع والجر، وكل واحد من هذه الثلاثة فإنه يمتاز عن غيره امتيازا ظاهرا جليا، وأما الإشمام والروم فيقل حصولهما في لغات العرب، وذلك أيضا من جنس ما يوجب الفصاحة، وأما الكلمات الحاصلة بحسب التركيب فهي أنواع :
أحدها : أن الحروف على قسمين متقاربة المخرج ومتباعدة المخرج، وأيضا الحروف على قسمين منها