مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٤٤
في الإلهية وهو يوجب الكفر باللّه، فالحاصل أنهم كفروا باللّه لأجل قولهم بهذه الأشياء، وأثبتوا الأنداد أيضا للّه لأجل قولهم بإلهية تلك الأصنام، واحتج تعالى على فساد قولهم بالتأثير فقال كيف يجوز الكفر باللّه، وكيف يجوز جعل هذه الأصنام الخسيسة أندادا للّه تعالى، مع أنه تعالى هو الذي خلق الأرض في يومين، وتمم بقية مصالحها في يومين آخرين وخلق السموات بأسرها في يومين آخرين؟ فمن قدر على خلق هذه الأشياء العظيمة، كيف يعقل الكفر به وإنكار قدرته على الحشر والنشر، وكيف يعقل إنكار قدرته على التكليف وعلى بعثة الأنبياء، وكيف يعقل جعل هذه الأصنام الخسيسة أندادا له في المعبودية والإلهية، فإن قيل من استدل بشيء على إثبات شيء، فذلك الشيء المستدل به يجب أن يكون مسلما عند الخصم حتى يصح الاستدلال به، وكونه تعالى خالقا للأرض في يومين أمر لا يمكن إثباته بالعقل المحض، وإنما يمكن إثباته بالسمع ووحي / الأنبياء، والكفار كانوا منازعين في الوحي والنبوّة، فلا يعقل تقرير هذه المقدمة عليهم، وإذا امتنع تقرير هذه المقدمة عليهم امتنع الاستدلال بها على فساد مذاهبهم، قلنا إثبات كون السموات والأرض مخلوقة بطريق العمل ممكن، فإذا ثبت ذلك أمكن الاستدلال به على وجود الإله القادر القاهر العظيم، وحينئذ يقال للكافرين فكيف يعقل التسوية بين الإله الموصوف بهذه القدرة القاهرة وبين الصنم الذي هو جماد لا يضر ولا ينفع في المعبودية والإلهية؟ بقي أن يقال : فحينئذ لا يبقى في الاستدلال بكونه تعالى خالقا للأرض في يومين أثر، فنقول هذا أيضا له أثر في هذا الباب، وذلك لأن أول التوراة مشتمل على هذا المعنى، فكان ذلك في غاية الشهرة بين أهل الكتاب، فكفار مكة كانوا يعتقدون في أهل الكتاب أنهم أصحاب العلوم والحقائق، والظاهر أنهم كانوا قد سمعوا من أهل الكتاب هذه المعاني واعتقدوا في كونها حقة، وإذا كان الأمر كذلك
فحينئذ يحسن أن يقال لهم أن الإله الموصوف بالقدرة على خلق هذه الأشياء العظيمة في هذه المدة الصغيرة كيف يليق بالعقل جعل الخشب المنجور والحجر المنحوت شريكا له في المعبودية والإلهية؟ فظهر بما قررنا أن هذا الاستدلال قوي حسن.
وأما قوله تعالى : ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ أي ذلك الموجود الذي علمت من صفته وقدرته أنه خلق الأرض في يومين هو رب العالمين وخالقهم ومبدعهم، فكيف أثبتم له أندادا من الخشب والحجر؟ ثم إنه تعالى لما أخبر عن كونه خالقا للأرض في يومين أخبر أنه أتى بثلاثة أنواع من الصنع العجيب والفعل البديع بعد ذلك فالأول : قوله وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها والمراد منها الجبال، وقد تقدم تفسير كونها رَواسِيَ في سورة النحل [١٥]، فإن قيل : ما الفائدة في قوله مِنْ فَوْقِها ولم لم يقتصر على قوله وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ كقوله تعالى : وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ [المرسلات : ٢٧] وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ [الرعد : ٣] قلنا لأنه تعالى لو جعل فيها رواسي من تحتها لأوهم ذلك أن تلك الأساطين التحتانية هي التي أمسكت هذه الأرض الثقيلة عن النزول، ولكنه تعالى قال خلقت هذه الجبال الثقال فوق الأرض، ليرى الإنسان بعينه أن الأرض والجبال أثقال على أثقال، وكلها مفتقرة إلى ممسك وحافظ، وما ذاك الحافظ المدبر إلا اللّه سبحانه وتعالى والنوع الثاني : مما أخبر اللّه تعالى في هذه الآية قوله وَبارَكَ فِيها والبركة كثرة الخير والخيرات الحاصلة من الأرض أكثر مما يحيط به الشرح والبيان، وقد ذكرناها بالاستقصاء في سورة البقرة قال ابن عباس رضي اللّه عنهما : يريد شق الأنهار وخلق الجبال وخلق الأشجار والثمار وخلق أصناف الحيوانات وكل ما يحتاج


الصفحة التالية
Icon