مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٤٦
السائلين أي الطالبين للأقوات المحتاجين إليها والثاني : أنه متعلق بمحذوف والتقدير كأنه قيل هذا الحصر والبيان لأجل من سأل كم خلقت الأرض وما فيها، ولما شرح اللّه تعالى كيفية تخليق الأرض وما فيها أتبعه بكيفية تخليق السموات فقال : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ وفيه مباحث :
البحث الأول : قوله تعالى : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلتفت معه إلى عمل آخر، وهو من الاستواء الذي هو ضد الاعوجاج، ونظيره قولهم استقام إليه وامتد إليه، ومنه قوله تعالى : فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ [فصلت : ٦] والمعنى ثم دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض وما فيها، من غير صرف يصرفه ذلك.
البحث الثاني : ذكر صاحب «الأثر» أنه كان عرش اللّه على الماء قبل خلق السموات والأرض فأحدث اللّه في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فيبقى على وجه الماء فخلق اللّه منه اليبوسة وأحدث منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق اللّه منه السموات.
واعلم أن هذه القصة غير موجودة في القرآن، فإن دل عليه دليل صحيح قبل وإلا فلا، وهذه القصة مذكورة في أول الكتاب الذي يزعم اليهود أنه التوراة، وفيه أنه تعالى خلق السماء من أجزاء مظلمة، وهذا هو المعقول لأنا قد دللنا في المعقولات على أن الظلمة ليست كيفية وجودية، بدليل أنه لو جلس إنسان في ضوء السراج وإنسان آخر في الظلمة، فإن الذي جلس في الضوء لا يرى مكان الجالس في الظلمة ويرى ذلك الهواء مظلما، وأما الذي جلس في الظلمة فإنه يرى ذلك الذي كان جالسا في الضوء ويرى ذلك الهواء مضيئا، ولو كانت الظلمة صفة قائمة بالهواء لما اختلفت الأحوال بحسب اختلاف أحوال الناظرين، فثبت أن الظلمة عبارة عن عدم النور، فاللّه سبحانه وتعالى لما خلق الأجزاء التي لا تتجزأ، فقبل أن خلق فيها كيفية الضوء كانت مظلمة عديمة النور، ثم لما ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمسا وقمرا، وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة، فثبت أن تلك الأجزاء حين قصد اللّه تعالى أن يخلق منها السموات والشمس والقمر كانت مظلمة، فصح تسميتها بالدخان، لأنه لا معنى للدخان إلا أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور، فهذا ما خطر بالبال في تفسير الدخان، واللّه أعلم بحقيقة الحال.
البحث الثالث : قوله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ مشعر بأن تخليق السماء حصل بعد تخليق الأرض، وقوله تعالى : وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات : ٣٠] مشعر بأن تخليق الأرض حصل بعد تخليق السماء وذلك يوجب التناقض، واختلف العلماء في هذه المسألة، والجواب المشهور : أن يقال إنه تعالى / خلق الأرض في يومين أولا ثم خلق بعدها السماء، ثم بعد خلق السماء دحا الأرض، وبهذا الطريق يزول التناقض، واعلم أن هذا الجواب : مشكل عندي من وجوه الأول : أنه تعالى بيّن أنه خلق الأرض في يومين، ثم إنه في اليوم الثالث جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها وهذه الأحوال لا يمكن إدخالها في الوجود إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة لأن خلق الجبال فيها لا يمكن إلا بعد أن صارت الأرض مدحوة منبسطة، وقوله تعالى : وَبارَكَ فِيها مفسر بخلق الأشجار والنبات والحيوان فيها، وذلك لا يمكن إلا بعد صيرورتها منبسطة، ثم إنه تعالى قال بعد ذلك ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فهذا يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض وبعد أن جعلها مدحوة، وحينئذ يعود السؤال المذكور الثاني : أنه قد دلّت الدلائل الهندسية على أن


الصفحة التالية
Icon