مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٤٩
مختصا بتلك السماء، وقوله تعالى : وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أي وكان قد خص كل سماء بالأمر المضاف إليها كقوله وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف : ٤] والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء وكان قد أوحى، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثم تقتضي التأخير وكلمة كان تقتضي التقديم فالجمع بينهما تفيد التناقض، ونظيره قول القائل ضربت اليوم زيدا ثم ضربت عمرا بالأمس، فكما أن هذا باطل فكذا ما ذكرتموه وإنما يجوز تأويل كلام اللّه بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض والركاكة فيه، والمختار عندي أن يقال خلق السموات مقدم على خلق الأرض، بقي أن يقال كيف تأويل هذه الآية؟ فنقول : الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، والدليل عليه قوله إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران : ٥٩] فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لكان تقدير الآية أوجده من تراب ثم قال له كن فيكون وهذا محال، لأنه يلزم أنه تعالى قد قال للشيء الذي وجد كن ثم إنه يكون وهذا محال، فثبت أن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد، بل هو عبارة عن التقدير، والتقدير حق اللّه تعالى هو حكمه بأنه سيوجده وقضاؤه بذلك، وإذا ثبت هذا فنقول قوله خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ معناه أنه قضى بحدوثه في يومين، وقضاء اللّه بأنه سيحدث كذا في مدة كذا، لا يقتضي حدوث ذلك / الشيء في الحال، فقضاء اللّه تعالى بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السماء، ولا يلزم منه تقدم إحداث الأرض على إحداث السماء، وحينئذ يزول السؤال، فهذا ما وصلت إليه في هذا الموضع المشكل.
ثم قال تعالى : فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ.
واعلم أن ظاهر هذا الكلام يقتضي أن اللّه تعالى أمر السماء والأرض بالإتيان فأطاعا وامتثلا وعند هذا حصل في الآية قولان :
القول الأول : أن تجري هذه الآية على ظاهرها فنقول : إن اللّه تعالى أمرهما بالإتيان فأطاعاه قال القائلون بهذا القول وهذا غير مستبعد، ألا ترى أنه تعالى أمر الجبال أن تنطق مع داود عليه السلام فقال : يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ [سبأ : ١٠] واللّه تعالى تجلى للجبل قال : فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [الأعراف : ١٤٣] واللّه تعالى أنطق الأيدي والأرجل فقال : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور : ٢٤] وإذا كان كذلك فكيف يستبعد أن يخلق اللّه في ذات السماء والأرض حياة وعقلا وفهما، ثم يوجه الأمر والتكليف عليهما، ويتأكد هذا الاحتمال بوجوه الأول : أن الأصل حمل اللفظ على ظاهره إلا إذا منع منه مانع، وهاهنا لا مانع، فوجب إجراؤه على ظاهره الثاني : أنه تعالى أخبر عنهما، فقال : قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ وهذا الجمع جمع ما يعقل ويعلم الثالث : قوله تعالى : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها [الأحزاب : ٧٢] وهذا يدل على كونها عارفة باللّه، مخصوصة بتوجيه تكاليف اللّه عليها، والإشكال عليه أن يقال : المراد من قوله ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً الإتيان إلى الوجود والحدوث والحصول وعلى هذا التقدير فحال توجه هذا الأمر كانت السموات والأرض معدومة، إذ لو كانت موجودة لصار حاصل هذا الأمر أن يقال :
يا موجود كن موجودا، وذلك لا يجوز، فثبت أنها حال توجه هذا الأمر عليها كانت معدومة، وإذا كانت معدومة لم تكن فاهمة ولا عارفة للخطاب، فلم يجز توجيه الأمر عليها، فإن قال قائل : روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال :


الصفحة التالية
Icon