مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٥٤
دللناهم على طريق الخير والشر فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد.
واعلم أن صاحب «الكشاف» ذكر في تفسير الهدى في قوله تعالى : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة : ٢] أن الهدى عبارة عن الدلالة الموصلة إلى البغية، وهذه الآية تبطل قوله، لأنها تدل على أن الهدى قد حصل مع أن الإفضاء إلى البغية لم يحصل، فثبت أن قيد كونه مفضيا إلى البغية غير معتبر في اسم الهدى.
وقد ثبت في هذه الآية سؤال يشعر بذلك إلا أنه لم يذكر جوابا شافيا فتركناه، قالت المعتزلة هذه الآية دالة على أن اللّه تعالى قد ينصب الدلائل ويزيح الأعذار والعلل، إلا أن الإيمان إنما يحصل من العبد لأن قوله وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ يدل على أنه تعالى قد نصب لهم الدلائل وقوله فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى يدل على أنهم من عند أنفسهم أتوا بذلك العمى فهذا يدل على أن الكفر والإيمان يحصلان من العبد، وأقول بل هذه الآية من أدل الدلائل، على أنهما إنما يحصلان من اللّه لا من العبد، وبيانه من وجهين : الأول : أنهم إنما صدر عنهم ذلك العمى، لأنهم أحبوا تحصيله، فلما وقع في قلبهم هذه المحبة دون محبة ضده، فإن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح فهو باطل، وإن كان المرجح هو العبد عاد الطلب، وإن كان المرجح هو اللّه فقد حصل المطلوب الثاني : أنه تعالى قال : فَاسْتَحَبُّوا / الْعَمى عَلَى الْهُدى ومن المعلوم بالضرورة أن أحدا لا يحب العمى والجهل مع العلم بكونه عمى وجهلا، بل ما لم يظن في ذلك العمى والجهل كونه تبصرة وعلما لا يرغب فيه، فإقدامه على اختيار ذلك الجهل لا بد وأن يكون مسبوقا بجهل آخر، فإن كان ذلك الجهل الثاني باختياره أيضا لزم التسلسل وهو محال، فلا بد من انتهاء تلك الجهالات إلى جهل يحصل فيه لا باختياره وهو المطلوب، ولما وصف اللّه كفرهم قال : فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ وصاعِقَةُ الْعَذابِ أي داهية العذاب والْهُونِ الهوان، وصف به العذاب مبالغة أو أبدل منه بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يريد من شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة، وشرع صاحب «الكشاف» هاهنا في سفاهة عظيمة. والأولى أن لا يلتفت إليه لأنه وإن كان قد سعى سعيا حسنا فيما يتعلق بالألفاظ، إلا أن المسكين كان بعيدا من المعاني.
ولما ذكر اللّه الوعيد أردفه بالوعد فقال : وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ يعني وكانوا يتقون الأعمال التي كان يأتي بها قوم عاد وثمود، فإن قيل : كيف يجوز للرسول صلى اللّه عليه وسلّم أن ينذر قومه مثل صاعقة عاد وثمود، مع العلم بأن ذلك لا يقع في أمة محمد صلى اللّه عليه وسلّم، وقد صرّح اللّه تعالى بذلك في قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال : ٣٣] وجاء في الأحاديث الصحيحة أن اللّه تعالى رفع عن هذه الأمة هذه الأنواع من الآفات
قلنا إنهم لما عرفوا كونهم مشاركين لعاد وثمود في استحقاق مثل تلك الصاعقة جوزوا حدوث ما يكون من جنس ذلك، وإن كان أقل درجة منهم وهذا القدر يكفي في التخويف.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ إلى ٢٤]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤)


الصفحة التالية
Icon