مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٦٩
واعلم أنه تعالى لما هدد الملحدين في آيات اللّه، ثم بيّن شرف آيات اللّه، وعلو درجة كتاب اللّه رجع إلى أمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم بأن يصبر على أذى قومه وأن لا يضيق قلبه بسبب ما حكاه عنهم في أول السورة من أنهم قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ إلى قوله فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ [فصلت : ٥] / فقال : ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ وفيه وجهان : الأول : وهو الأقرب أن المراد ما تقول لك كفار قومك إلا مثل ما قد قال للرسل كفار قومهم من الكلمات المؤذية والمطاعن في الكتب المنزّلة وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للمحقين وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ للمبطلين ففوض هذا الأمر إلى اللّه واشتغل بما أمرت به وهو التبليغ والدعوة إلى اللّه تعالى الثاني : أن يكون المراد ما قال اللّه لك إلا مثل ما قال لسائر الرسل وهو أنه تعالى أمرك وأمر كل الأنبياء بالصبر على سفاهة الأقوام فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخافه أهل معصيته، وقد ظهر من كلامنا في تفسير هذه السورة أن المقصود من هذه السورة، هو ذكر الأجوبة عن قولهم وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ فتارة ينبه على فساد هذه الطريقة، وتارة يذكر الوعد والوعيد لمن لم يؤمن بهذا القرآن ولم يعرض عنه، وامتد الكلام إلى هذا الموضع من أول السورة على الترتيب الحسن والنظم الكامل، ثم إنه تعالى ذكر جوابا آخر عن قولهم وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ فقال : وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : أأعجمي بهمزتين على الاستفهام، والباقون بهمزة واحدة ومدة على أصلهم في أمثاله، كقوله أَأَنْذَرْتَهُمْ [البقرة : ٦] ونحوها على الاستفهام، وروي عن ابن عباس بهمزة واحدة، وأما القراءة بهمزتين : فالهمزة الأولى همزة إنكار، والمراد أنكروا وقالوا قرآن أعجمي ورسول عربي، أو مرسل إليه عربي، وأما القراءة بغير همزة الاستفهام، فالمراد الإخبار بأن القرآن أعجمي والمرسل إليه عربي.
المسألة الثانية : نقلوا في سبب نزول هذه الآية أن الكفار لأجل التعنت، قالوا لو نزل القرآن بلغة العجم فنزلت هذه الآية، وعندي أن أمثال هذه الكلمات فيها حيف عظيم على القرآن، لأنه يقتضي ورود آيات لا تعلق للبعض فيها بالبعض، وأنه يوجب أعظم أنواع : الطعن فكيف يتم مع التزام مثل هذا الطعن ادعاء كونه كتابا منتظما، فضلا عن ادعاء كونه معجزا؟ بل الحق عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحد، على ما حكى اللّه تعالى عنهم من قولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وهذا الكلام أيضا متعلق به، وجواب له، والتقدير : أنا لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا : كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب، ويصح لهم أن يقولوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ أي من هذا الكلام وَفِي آذانِنا وَقْرٌ


الصفحة التالية
Icon